رحل الذين نحبهم

ورحل سميح القاسم، السنديانة الفلسطينية. حارس آخر للذاكرة الفلسطينية يترجل. رحل قبل أن يكتمل حلم شعبه، برحيل آخر احتلال في التاريخ الحديث.
نعم... اضافة اعلان
"ذهب الذين نحبهم
رحلوا وما ألقت مراسيها مراكبهم ولا
مسحت حدود المرفأ النائي عيون الراحلين
أوّاه يا وطني الحزين
كم ذا شربت وكم شربنا
في مهرجانات الأسى والموت كاسات العصير المرّ
لا أنت ارتويت ولا ارتوينا
إنّا سبقى ظامئين".
بالشعر، وبأبيات فدوى طوقان، يستقيم وداع سميح القاسم، الذي واصل على مدى 70 عاما وأكثر مشيه "منتصب القامة ومرفوع الهامة"، وحمل "على كتفه نعشه"، وبقي قلبه "قمر أحمر.. وبستان فيه العوسج وفيه الريحان"، وشفتاه "سماء تمطر نارا حينا وحبا أحيان". وكملايين من أبناء شعبه، مشى "في كفّي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي".
رحل سميح، شاعر المقاومة والحب والحياة.. شاعر فلسطين، التي ألهمت مأساتها، المفتوحة على المدى، آلاف الشعراء والروائيين والفنانين، الفلسطينيين والعرب والعالميين. خفت سراج الضوء في الروح المتعبة التي صاغت بأشعارها ومداد قلمها ورؤاها الإبداعية، ذاكرة وطن سليب، وشعب مشرد، ومشروع تحرير لم يكتمل بعد.
لم يتمكن السياسيون والمناضلون، وحتى شهداء الثورة، من مزاحمة شعراء فلسطين الحديثين، وعلى رأسهم سميح القاسم ومحمود درويش وابراهيم وفدوى طوقان وعبدالرحيم عمر وكمال عدوان وعز الدين المناصرة، وغيرهم الكثير، في تصدر الوعي الشعبي والوطني الفلسطيني، بل وصياغته، رغم ما للشعر والأدب من نخبوية.
شكل ويشكل نتاج هؤلاء الشعراء العظام، بإسناد وتكامل مع نتاج كبار الروائيين والأدباء الفلسطينيين، من غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا ويحيى يخلف وتوفيق زياد وماجد أبو شرار وسحر خليفة وليانة بدر ورشاد أبو شاور، وغيرهم الكثير، الذاكرة الفلسطينية العصية على الاقتلاع، رغم عقود من التشريد والتهجير، ورغم قوافل الشهداء والضحايا التي لم ترتو من دماء أصحابها الأرض بعد!
لم يكن شاعر ثورة ومقاومة فقط، بل كان سميح شاعر حياة وحب وفضاءات إنسانية صنعت منه قامة شعرية عربية وعالمية يشار إليها بالبنان. لم يكن يفصل بين الثورة والمقاومة والحياة والمرأة، ولم يكن الشعر عنده نظم كلمات وأبيات، ولا حرفة عابر، كان له أكسير حياة، وطاقة متفجرة من الإبداع والإنسانية لا يمكن منعها، أو ترشيدها.
رحل سميح، وترك فلسطين أمانة في رقبة شعره الذي لا يرحل ولا يموت. تبكيه فلسطين اليوم كما بكاها وغناها منذ دفقة الحياة الأولى، قبل أكثر من سبعين عاما. رحل ليصعد إلى السماء، هناك فوق نجمة عالية، يرقب من فوقها حبيبته الأولى، فلسطينه التي لم يكتمل عرسها بعد، وستبقى تنتظر منه، من هناك، من فوق النجمة، قصيدتها الأخيرة والأبهى، قصيدة تحرير قادم لا محالة!