رحل "حارس الذاكرة الفلسطينية"..!

فقدت فلسطين، نهاية الأسبوع الماضي، جزءاً عزيزاً من صوتها وروحها برحيل الأديب والمؤرخ والأنثروبولوجي الدكتور نمر سرحان، الذي استحق لقب "حارس الذاكرة الفلسطينية". وقد أنفق الراحل سرحان قسماً كبيراً من حياته في جهد لتوثيق أكبر قدر ممكن من مكونات التراث الشعبي الفلسطيني، من الأغنية إلى الحكاية الشعبية والأسطورة. ولَم يقف سرحان في عمله عند تثبيت النصوص -وهو شأن عظيم الأهمية في حد ذاته- وإنما بحث بعمق في البنية الفنية ورصد العلاقات الداخلية والسياقية للمنطوق الشعبي الفلسطيني بمنهجية الأكاديمي والأنثروبولوجي، وروحيّة العاشق المنتمي.اضافة اعلان
في تقديم عمله المهم "أرشيف الفلكلور الفلسطيني"، الذي صدر عن دائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1985، كتب الناشر: "في الوقت الذي يتعرض فيه مركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت للنهب والتدمير، وفي الوقت الذي يحس به الباحث الفلسطيني أن كل شيء معرض للمصادرة، وفي ظل عدم توفر إمكانية لوجود مؤسسة وطنية فلسطينية تعتني بالمحفوظات، فإن النشر يظل الخيار الوحيد للمحافظة على المأثورات الشعبية الفلسطينية".
ربما يلخص هذا التقديم جزءاً من الرسالة التي أداها نمر سرحان، المدرك لحقيقة أن صراع الشعب الفلسطيني مع العدو الصهيوني هو في جزء مركزي منه صراع روايات. ولأنه لا يمكن الحديث عن "شعب" بلا سرد، فقد استهدف المشروع الاستعماري في فلسطين السرد الوطني الفلسطيني بالطمس والإلغاء بنفس إصراره على تدمير القرى الفلسطينية وإخفاء معالمها وأسمائها. واستهدف العدو في حربه على الروح الفلسطينية مراكز الوثائق الفلسطينية أينما استطاع أن يصل إليها. ولذلك، تصدى المناضلون الواعون الذين انتمى إليهم سرحان لمهمة الرد -كتابة- على هذا الهجوم بوضع النص الفلسطيني على الورق.
لا شك أن المهمة لم تكن سهلة، لأن السرد الشعبي كان مُعطى حاضراً بآلياته الخاصة في الحياة الفلسطينية من خلال التواتر الشفوي، وربما لَم تكن ثمة ضرورة لجمعه مكتوباً بهذه الجدية. لكن خصوصية الحالة الفلسطينية بعد النكبة أوجدت ضرورة البدء من الصفر تقريباً في هذا المشروع المضني. ولا بد أن ذلك تطلب الانخراط في المجتمعات الفلسطينية والاستماع إلى الحكايات والأمثال والأغاني من أفواه الناس ومقارنتها وتوثيقها، لمحاولة تسجيل روح شعب وذاكرته اللتين كونتهما آلاف السنين.
عندما شاهدت نعي رابطة الكتاب الأردنيين للراحل، كان أول ارتباط ظهر في ذهني هو اسم مجموعته القصصية "أبو خنفر" وسيناريو "أبو كباري". ولا أتذكر الآن تفاصيل تلك القصص بقدر ما تزورني انطباعات وأجواء معينة لا أستطيع وصفها. لكنها أعادت معها حضور اسم نمر سرحان القوي وعمله في الثمانينيات وحولها، تلك الفترة الحرجة من النضال الفلسطيني. وكانت أعماله في توثيق التراث وحكاياته عن الأبطال الشعبيين أشبه بانهمار المطر على الأرض العطشى بالنسبة للفلسطينيين من الأجيال الجديدة والمنفية، الذين يجاهدون لمواصلة الاندغام بالروح الوطنية المستهدفة وبناء أركان الهوية المشتتة.
اليوم، بعد أجيال، ما يزال الفلسطينيون يحاولون أن يورثوا أبناءهم حكايات الجدات الأسطورية التي تحكى قبل النوم، وأغاني الأعراس وأسماء الأدوات والأشياء باللهجة الفلسطينية، كجزء من وصية التشبث بالروح والبقاء الوطني. وربما كان الكثير من ذلك ليسقط في الطريق لولا العمل المضني الذي بذله نمر سرحان وزملاؤه من حراس الذاكرة الوطنية الفلسطينية، والذين لن ينساهم الفلسطينيون وسيدينون لهم دائماً بالفضل، وقد أصبحوا بعملهم جزءاً من الذاكرة الفلسطينية العزيزة هم أيضاً.
نمر سرحان من مواليد قرية السنديانة قضاء حيفا العام 1937. وقد ترك تراثاً غنياً حقاً من الأعمال المختلفة، منها: "أغانينا الشعبية في الضفة الغربية، وأغانينا الشعبية الفلسطينية، وموسوعة الفلكلور الفلسطيني، وأبو اكباري سيرة بطل شعبي (سيناريو)، وسلسلة ديوان الشعر الشعبي الفلسطيني، ومعجم قواعد اللغة العربية، وأبو خنفر وقصص أخرى، والانتفاضة والفلكلور الفلسطيني، وسلسلة أرشيف الفلكلور الفلسطيني، والمباني الكنعانية في فلسطين، وعرب فلسطين المحتلة دولة معلنة، وانتفاضة مستمرة، والحكاية الشعبية الفلسطينية، وإحياء التراث الفلسطيني، وسجل القادة الثوار والمتطوعين لثورة 1936 و1939 بالشراكة مع د. مصطفى كبها، وكذلك ألف بعض الروايات منها (النزلة، العسل البري)، وترك ديوان شعر وبعض المشاريع البحثية التي لم تكتمل".
رحم الله نمر سرحان، وواجب الباقين هو الحرص على ذاكرة الشعب الفلسطيني، التي وقف على بابها حارساً وأصبح جزءاً منها.