ردهة السرطان

كثيراً ما يستخدم السياسيون مصطلح "السرطان" في أدبياتهم، كلما دعت الحاجة إلى وصف خطر أو جهة أو كيان، وذلك للتدليل على استفحال خطرها وتغلغلها وشراستها، مستغلين ما لهذه الكلمة من وقع على أذن المتلقي.اضافة اعلان
وقد كان الكاتب والمعارض الروسي ألكسندر سولجينيتسن أول من تنبه إلى تطويع "السرطان" لخدمة السياسة، وذلك في روايته المميزة "ردهة السرطان" (Cancer Ward)، والتي تتناول حقبة الخمسينيات بعيد وفاة ستالين؛ في محاولة جريئة لتشخيص الداء الذي استفحل في الدولة، واستقراء مآلات الأمور في ظل القادة الجدد.
تدور أحداث الرواية في قسم لمرض السرطان في إحدى المستشفيات في آسيا الوسطى، حيث تمثل شخوص الرواية شرائح المجتمع السوفيتي المختلفة؛ من البيروقراطية الحزبية الانتهازية، إلى المنبوذين المنفيين في معسكرات العمل من المعارضين السياسيين، مروراً بالأغلبية الصامتة أو المتآمرة بصمت.
يجمع "السرطان" كل هؤلاء في ردهة بائسة يقوم عليها قلة من الأطباء، يحاولون جاهدين، على بؤس ما بين أيديهم من وسائل، علاج المرضى في مهمة تبدو يائسة.
يصف لنا سولجينيتسن السجال السياسي، والتناقض الطبقي والأيديولوجي بين المرضى، من خلال مناقشاتهم الحادة التي يقطعون فيها نهاراتهم الطويلة؛ إذ لم يستطع المرض الذي يفترض أن يوحدهم  في المصيبة، ردم عمق الهوة بينهم، فكانت الشماتة والكرهية والاحتقار تطغى على مشاعرهم.
كما تصف لنا الرواية الضبابية وعدم وضوح الرؤية اللذين غلفا تلك المرحلة؛ إذ لا يعلم المريض شيئا عن مدى استفحال المرض، ولا عن الدواء الذي يتناوله؛ كما لا يعرف الطبيب الجرعة المناسبة، ولا الخطوة التالية. هذا فيما الإشاعات تملأ المكان، وهو أمر طبع تلك الفترة؛ إذ راوح الناس فيها بين الأمل بالتخلص من دكتاتورية الحزب والفرد، وبين استمرار الحقبة الستالينية، بوجوه وأسماء جديدة. لكن الكاتب لم يخف تشاؤمه إزاء إمكانية إحداث اختراق في هذا النظام الحديدي؛ فها هو المسؤول الحزبي يغادر المستشفى وقد ترسخ في اعتقاده أنه شفي من المرض، بينما يعلم كل من حوله أن المرض استفحل فيه ليصل مرحلة استحالة الشفاء، في إشارة رمزية إلى حالة الإنكار التي بلغتها السلطة، إلى أن يقرر الكاتب على لسان أحد أبطال روايته أنه إذا كان الرجل يموت بسبب ورم استوطن جسمه، فما بالك بوطن انتشرت فيه المعتقلات ومعسكرات الشغل كالأورام!
ثم تأتي الإشارة إلى البحث عن العلاج الناجع، والذي يستخلص من أحد الفطريات التي تنمو على أشجار البتولا في غابات روسيا القديمة، في إشارة إلى العودة إلى التقاليد الروسية القديمة.
"ردهة السرطان" رواية عن السياسة والحياه والموت والأمل. لكنها، أيضا، فائقة الدقة فيما يتعلق بالمعلومة الطبية، بحيث يصعب على المختص في هذا المجال، حتى في عصرنا الحالي، إيجاد ثغرة في حبكتها الطبية.
انتقلت بي الأفكار، وأنا أقرأ هذه الرواية، من روسيا وصقيعها، إلى منطقتنا ونيرانها المستعرة، فلم أجد إلا مستشفى كبيرا للسرطان؛ حيث الحكماء غائبون أو مغيبون، والأطباء مزيفون، والدواء مغشوش، والمرضى يتقاتلون فيما بينهم على موطئ كفن في المقبرة المكتظة.

*مدير عام مركز الحسين للسرطان