"رسالة الاستقلال"

حفل استقبال عيد الاستقلال جاء مختلفا لهذا العام، فقد تشكلت على مدى الأعوام القليلة الماضية قناعة لدى الأردنيين بأحقيتنا في الاحتفال بهذا اليوم إعلاءً لشأن الوطن الصامد في وجه الأنواء العربية، حتى غدا البلد الوحيد لجميع من يطلبون الأمن من ويلات جحيم الحروب والنزاعات.اضافة اعلان
غير أن ثمة رسائل مهمة حملتها فقرات برنامج الحفل لا بد من التأكيد عليها، أولها جاءت من خلال توزيع الأوسمة على مستحقيها. الرسالة كانت واضحة؛ فالتكريم لم يكن لشخصيات رسمية، بل لمدنيين مستقلين حققوا منجزات واضحة في قطاعات مختلفة، بدون الاتكاء على ذراع رسمي أو دعم حكومي، فكان كل واحد منهم نجما رفع اسم الأردن عاليا.
استبدال الكلمات الرسمية، التي درجت عادة الاحتفال عليها، بعرض يقدمه فنانون أردنيون، إنما هو رسالة، أيضا، تؤكد على أهمية الفن ودوره في البناء والتقدم، كواحد من المرتكزات والحقول التي تشي بتقدم المجتمعات إلى جانب المرتكزات المعرفية والعلمية على اختلافها.
حضور الفنانة سميرة توفيق منح الحفل طعما خاصا، وأشاع الفرح لدى المتابعين، وخاطب وجدان الأردنيين، معيدا التأكيد على هوية وطنية متحققة، شكلها وصاغ أبعادها أردنيون عملوا واجتهدوا خلال فترات تاريخية أكثر خطورة وأشد قتامة مما نعيشه اليوم، وكان فيه الوطن على المحك، ومع ذلك، وبإخلاصهم وعملهم الدؤوب استطاعوا أن يحققوا منجزات ما نزال نعيش في خيرها حتى اليوم.
طلة سميرة توفيق في هذا الاحتفال المميز، أدخلت الفرح إلى قلوب الكبار الذين عايشوا ذلك الماضي غير البعيد، وتعرّف عليها جيل شاب لم يعرفها سابقا، ولا عَلِمَ بمساهماتها في صياغة وجدان الأردنيين وتوحيد رؤاهم وتطلعاتهم. كما أن حضور الفنانة شكّل تغييرا في النمطية التي سيطرت على هذا النوع من الاحتفالات.
الاستقلال لهذا العام كان بطعم المدنية والإبداع، ورسالة مهمة بأن كل مبدع له مكانته وتقديره من أعلى المستويات، فالإبداع هو ما يحقق الإنجاز، والمبدعون هم بناة الوطن؛ حاضره ومستقبله.
ثمة فنان، أصر على أن الرسم والألوان ليست حكرا على المبصرين، فقرر أن يعلّم تذوقه لأطفال يتعايشون مع فقدان البصر، فخلق لهم عيونا مكّنتهم من رسم لوحاتهم الموقعة بأسمائهم.
وهناك الطبيب الذي وضع حدا لمعاناة مرضى أورام سرطانية، والمهندس الشاب الذي بعلمه استطاع تجنيب أبرياء موتا بشعا، حين قدر مخاطر تشققات أبنية متصدعة في حي الجوفة.
والصغار المبدعون لهم حضورهم أيضا، والرسالة إليهم أكدت أنهم الحاضر والمستقبل وفي أيديهم رسم خطوط الأمل، فرأينا بين المكرمين جود المبيضين أصغر روائية أردنية، وإيمان بيشة صاحبة الصوت المعجزة.
الحفل شدّد كذلك على أهمية العمل التطوعي من خلال تكريم متطوعين أحدثوا فرقا، ولو صغيرا، في مجتمعاتهم، لتشجيع غيرهم على القيام بمبادرات مشابهة تستهدف مجتمعات معينة، وتقدّم لها سبل النهوض. ولا يتسع المجال لذكر جميع المكرمين والمبادرات التي تمت بدون رافعة رسمية.
تفاصيل الاحتفال، وشخصيات المكرمين، تذكرنا أيضا ان النخب لم تعد تُصنع في الماكينات المعلبة، بل تفرزها المجتمعات الحية، التي تؤمن ان المجتمعات ومخرجاتها هي أساس التغيير.
الأجواء غير التقليدية في الاحتفالية عكست رقيا واضحا، ورسائل سياسية مهمة، في حوار حول الأحزاب السياسية ومستقبل الإصلاح السياسي ومكانة المرأة في العمل العام والمناصب التي تتقلدها.
الرسالة الأكثر وضوحا في الاحتفالية هي تأكيد أن البناء على منجزات العقود السابقة ورسم ملامح المستقبل لن يتم بمعزل عن القوى المدنية والأهلية والتطوعية، وأن هذه القطاعات من المجتمعات كبيرة الأثر كشريك في المضيّ نحو الإنجاز، فالإنجازات الحقيقية لا تتحقق بدون تشارك الجميع.
عنوان الأردن في المرحلة الراهنة؛ أن المكانة الأبرز هي للمبدعين والمتطوعين، وهذه هي "رسالة الاستقلال".