رسل الحقيقة

 نصحو من كسلنا فجأة، لنقرر التعرّف على أخبار العالم. كل ما يتطلبه الأمر منا هو أن نوجه الريموت كونترول ناحية الشاشة، ونختار أي القنوات نتابع.
أصبح الأمر يحدث لدينا بآلية حيادية، فالعالم كلّه بين أيدينا، فيما نحن نجلس تحت أجهزة التدفئة أو التكييف، ونادرا ما نفكر في أولئك الذين غالبا ما يخاطرون بأرواحهم من أجل إيصال الحقيقة إلى العالم.
ومع الإفراج عن الفريق الصحافي لقناة الجزيرة الأسبوع الماضي، والذي تم احتجازه لأكثر من ثلاثة أسابيع في طرابلس بليبيا، وبعد فترة قليلة من الفاجعة التي هزت الوسط الصحافي العربي عندما سقط رئيس قسم التصوير بالقناة علي الجابر شهيدا في مدينة بنغازي وهو يحاول إيصال صورة الحق بعدسته؛ تتجلى التضحيات الكبيرة التي يقدمها الصحافي من أجل إيصال كلمة الحق في أشد البلدان توترا.
 ما يتعرض له المراسلون الصحافيون كل يوم في بلاد الحروب والنزاع، يتطلب منّا وقفة تأملية في شجاعة أولئك الذين يطؤون النار بأقدامهم، ويحملون أرواحهم على أكفّهم، من دون أن يترددوا في ولوج باب المجهول.
وإذا كنا دائما نقيّم أهمية موضوعاتهم من جهتنا فقط، ونجد أنها تكشف لنا حقيقة ما يجري في كثير من بلدان العالم، فلا بأس كذلك من أن نرى أهمية عملهم من منظور آخر، وهو منظور أولئك المساكين الذين تتعقبهم كاميرات الصحافيين، وتتقصد قصصهم الإخبارية، لنكتشف كم من الأرواح حموها أن تهلك في بلدان ظلامية تحاول أن تمنع الأكسجين عن مواطنيها.
لنتصور أن باب ليبيا ظل مغلقا أمام الصحافة والإعلام، فكم من المذابح سوف ترتكب في السر! وما الذي كان سوف يؤثر في وجدان العالم ويجبره على الالتفات إلى مأساة الليبيين؟
الصحافيون مقاتلون حقيقيون يخاطرون بحياتهم، تاركين وراءهم عائلات وأطفالا وبلادا يحبون أن يتفيأوا ظلالها، غير أن نداء الواجب يجبرهم على الرحيل إلى حقول ألغام يمشون فيها في مقابل عدو غير معروف.
البيانات الصادرة عن منظمة "مراسلون بل حدود"، تكشف أنه خلال الفترة من 17 كانون الثاني وحتى 8 نيسان الحالي، أي خلال أقل من ثلاثة أشهر، قتل 16 صحافيا في 9 بلدان حول العالم، بينهم 11 صحافيا قتلوا في بلدان عربية، فيما تم اعتقال 150 صحافيا حول العالم في الفترة ذاتها.
تلك أرقام ليست بسيطة، وتؤشر على خطورة عمل الصحافي في مناطق التوتر والنزاع، وهو ما يجعلنا ندرك الأهمية القصوى لعرف أخلاقي، أو ميثاق أو أي لوائح مكتوبة، ليس فقط تحرّم التعرض لهذه المهنة وأصحابها، بل وتعظّم العقوبة على كل من يخالف تلك اللوائح، في أن يتفق العالم كله على أن الجهة التي تتقصد الصحافيين تصبح مطلوبة للمحكمة في كل بلد في العالم.
لم ننس حتى اليوم مراسِلة قناة العربية الشهيدة أطوار بهجت التي سقطت مضرّجة بدمها في مدينة سامراء العراقية العام 2006. يومها لم تسقط أطوار وحدها، بل سقطت معها حقيقة كاملة عن الوضع الذي كان يرتّب له في العراق، ليشعل دمها بعد ذلك حربا طائفية لم تبق بيتا عراقيا إلا وطالته.
لم ننسَ حتى اليوم مراسل قناة الجزيرة الشهيد طارق أيوب، الذي قضى في غارة أميركية أرادت أن تطفئ صوته وعين الكاميرا التي يتحدث من أمامها، لكي لا يكشف للعالم فظاعة الاحتلال ومجازره.
غير أن صوت الحق، وإن غاب قليلا، لا بد وأن يظهر مزغردا في سماء العالم. وهكذا هم الفرسان من الصحافيين، قد يتوارى صوتهم قليلا، غير أنه يتفجر في لحظة الحقيقة هادرا غير هيّاب لشيء أو لأحد.

اضافة اعلان