رفع الغطاء عن العنف ومخترقي القانون

ثمة مفارقات وظواهر مجتمعية، أردنية بامتياز، يصعب على المراقب تحليلها وفهم كنهها، ويحار في ربط أبعادها، والأسباب التي يمكن أن تفسرها وتضعها في سياقها المفهوم علميا وموضوعيا! بل ويخرج المراقب بعد محاولات فاشلة عديدة لفهمها وتفكيك ألغازها، وهو يضرب كفا بكف.اضافة اعلان
هذه الحالة تجدها بأوضح تجلياتها عندما تحاول أن تقرأ ظاهرة انتشار العنف المجتمعي، وامتداداتها وتفرعاتها، وتحاول أن تربطها بالحراك المجتمعي والقانوني والعشائري الذي يسعى للتصدي لظاهرة العنف؛ فتخرج مصدوما بحجم التناقضات والمفارقات في الواقع!
في هذا السياق تجيء أحداث العنف الأخيرة في محافظة معان أول من أمس، وذلك بعد سلسلة أحداث عنف وخرق للقانون على مدى الأسابيع الماضية، أقلقت كثيرا مواطني المحافظة وباديتها، وأضرت بمصالحهم وحياتهم، بل وأفزعت تداعياتها كل الغيورين والحريصين على السلم الأهلي واستقرار المواطنين وأمنهم في هذه المحافظة العزيزة.
المفارقة هنا كانت في أنه لم تمض ساعات قليلة على إصدار فاعليات شعبية وعشائرية وازنة ومحترمة من أبناء مدينة معان لبيان تنتقد فيه بشدة ومرارة مفهومة غياب أدوات تنفيذ القانون وسيادته، وما أسمته "تقاعس أجهزة الحكومة وتخليها عن القيام بواجباتها" أمام تزايد حوادث الاعتداءات وتردي الوضع الأمني في المحافظة، حتى انفجرت أعمال عنف وشغب جماعية داخل مدينة معان، ردا على مقتل شخصين في منطقة الراشدية، أعلن الأمن العام أنهما قتلا في اشتباك مسلح مع الشرطة.
بيان الشخصيات المعانية طفح بالمرارة والاستنكار لتقصير الأجهزة الرسمية في فرض القانون، ومكافحة الجريمة وحوادث الاعتداء، والتي كان آخرها الاعتداء على مهندس من معان أثناء توجهه إلى عمله في مشروع الديسي، وإصابته بعيارات نارية؛ لتأتي المفارقة سريعا. فعندما استجاب الأمن العام والأجهزة المختصة لشكوى العاملين في "كسارة" الراشدية، وتصدى للمعتدين، وقتل خلال العملية شخصان، قلب وسط معان، وأُغلقت الطرق وحُرقت الإطارات، من قبل شباب لم يلتفتوا لدعوات حكماء ووجهاء معان الكرام، إلى إنفاذ القانون وفرض سيادة الدولة واستعادة الأمن، والقبض على كل مرتكبي الجرائم والاعتداء على المواطنين الآمنين.
من قرأ بيان الفاعليات الشعبية ووجهاء معان، والذي لوحوا فيه بالوصول إلى مرحلة العصيان المدني والاعتصام المفتوح، شعر بالتعاطف معهم في مرارتهم الشديدة تجاه انسحاب أجهزة إنفاذ القانون من المشهد، وتقصيرها في مسؤوليتها ومحاسبة مخترقي القانون والاعتداءات المتكررة، ما يعرض أرواح الناس وممتلكاتهم ومصالحهم للأخطار والأضرار.
لكن ما جرى غداة صدور البيان، وانفلات العنف والاحتجاج العنيف وغير السلمي داخل المدينة، بعد حادثة الراشدية، وردا على تدخل الأمن العام وقيامه بواجبه، بعد شكوى العاملين في "الكسارة"، هو أمر يدل على أن الخلل أعمق من تقصير الأجهزة الرسمية وتهرب السياسيين من مسؤولياتهم، رغم أهمية هذين السببين أيضا. فالتهرب من المسؤولية، وعدم احترام القانون، والتمرد على توجيهات والتزامات الوجهاء والقادة العشائريين والاجتماعيين، هي أحد مظاهر الخلل العميق الذي يفسر اتساع وتعمق ظاهرة العنف المجتمعي.
ضمن هذه السياقات، يمكن تعداد حالات تصدي أهالي وأقارب بعض المطلوبين، والمتهمين بجرائم خطيرة، لمحاولات الأمن العام القبض على هؤلاء المطلوبين، والحؤول دون ذلك، بل وإصابة أو قتل رجال أمن عام أحيانا. هذا فضلا عن حالات الانتفاض القرابي والعشائري في المشاجرات الجامعية، والتي يغيب فيها العقل والحس بالمسؤولية والالتزام بالقانون.
مفارقاتنا وتناقضاتنا في ملف العنف كثيرة وغريبة. وقبل أن نطالب الدولة وأجهزة إنفاذ القانون والسياسيين، الذين يستمرئون التهرب من مسؤولياتهم، بتحمل المسؤولية وفرض القانون وسيادته، علينا جميعا، كمجتمع وشرائح اجتماعية وعشائر وقوى سياسية ومؤسسات مجتمعية، رفع الغطاء عن العنف ومخترقي القانون.
بغير ذلك، سنبقى ندور في ذات الدائرة، وبما ينذر بمزيد من العنف والأضرار.

[email protected]