رفقا بـ"صاحبة الجلالة"

ما يحصل في الإعلام العربي، مكتوبا ومرئيا ومسموعا وإلكترونيا، من المشرق إلى المغرب، هو ذبح لقيم الصحافة، والحرفية، والمهنية، والحيادية، والموضوعية، والمصداقية؛ وقتل لكل فكرة تتعلق بالرأي والرأي الآخر. اضافة اعلان
تكفيك دقائق محدودة وأنت تقلب محطات "النايل سات"، لتدرك حجم الكارثة الإعلامية التي تحصل في وطننا العربي. وتنبئك تلك الدقائق بحجم المآسي التي تقع فيها قنوات إعلامية مختلفة، تجعلك تقفز من مكانك فاغرا فاك، متأسفا على حجم الكذب والتلفيق اللذين يجري بهما تلقيم عقول الجيل الجديد من أطفالنا.
نقف حائرين متأسفين على وضع "السلطة الرابعة" التي باتت وسيلة حرب وقتل وتحريض، من قبل هذا الطرف أو ذاك. ونأسف على ما وصلت إليه المهنية والموضوعية الإعلامية عند كثير من أرباب "صاحبة الجلالة" التي تعتبر ألف باء الصحافة؛ إذ انحدرت الى إسفافٍ، وَضَعها في الدرك الأسفل، بدل أن تكون وسيلة تنوير وصدق.
عندما كان أساتذة الإعلام يحدثوننا عن أخطاء الإعلام العربي، وكيف وقع في فخ الكذب وعدم الموضوعية، كان بعضهم يستحضر لنا ما كان يقوله أحمد سعيد إبان حرب حزيران العام 1967، لدرجة جعلت الشعوب العربية في انتظار رؤية الدبابات العربية في شوارع تل أبيب، قبل أن يفيقوا على العكس؛ باحتلال الضفة الغربية التابعة حينها للأردن، وسيناء من مصر، والجولان من سورية.
بعد ذلك، كان رموز الإعلام يستحضرون مآل الإعلام العراقي إبان اجتياح القوات الأميركية والبريطانية للعراق، وكيف أن قنوات إعلامية عربية جعلت بعضنا يعتقد، بدون إدراك، أن هزيمة نكراء ستلحق بقوات التحالف، وأن "العلوج" ستصدهم أسوار بغداد. لكن ما حصل كان عكس ذلك، وتكشفت الحقائق سريعا؛ فسقطت بغداد، وظهر الإعلام بشكل مخزِ.
تلك الأخطاء لم يظهر من يتصدى لها ويصحح مسارها. ولم نسمع لاحقا عن حركة تصحيح إعلامية حقيقية شاملة، تدفع بأهمية حصول المواطن العربي على الحقيقة كاملة بدون تزييف أو مواقف مسبقة، تدفعه إلى عدم البحث عن قنوات عالمية، كـ"سي. إن. إن" أو "بي. بي. سي"، رغم يقيني أن تلك القنوات تنفذ أجندة خاصة أيضا، ولكن ليس بشكل مكشوف كما تفعل قنواتنا.
صحيح أنه باتت عندنا قنوات فضائية عربية إخبارية، عملت على خلق متابعين لها، عبر تبني بعضها لقضايا الشعوب ورفع سقف الحوارات بشكل غير مسبوق، فباتت قضايا كانت تعتبر "تابوهات" تناقش على الهواء مباشرة، وبتنا نرى محاورين عربا ينتقدون هذا الرئيس أو ذاك، ويهاجمون حكومات، فاستقطبت تلك القنوات الجمهور العربي الذي كان يتوق إلى رؤية من يتحدث بلسان عربي على شاشته. كل هذا كان يحصل، وكان البعض يعتقد أننا بالفعل ذاهبون إلى شفافية إعلامية غير مسبوقة. ولكن ما إن جاء ما يعرف أميركيا بـ"الربيع العربي"، حتى تكشفت الوجوه الحقيقية لتلك القنوات، وبتنا نرى ونسمع ونشاهد حجم الدمار الذي مارسته فضائيات وكتّاب ومراقبون ومحللون في العقول، وحجم النخر والعفن الذي أحدثته في بلاط "صاحبة الجلالة"، حتى  باتت السلطة الرابعة وسيلة للقتل والدمار والإرهاب، بدل أن تكون وسيلة للتنوير والرأي والرأي الآخر والشفافية والموضوعية والصدق والحرية والعدالة والتقدم.
سقطت قنوات وصحف ومجلات ومواقع إلكترونية وإذاعات في بوتقة الاصطفاف الأعمى، فاحترنا كيف نتعامل مع هذه القناة أو تلك؛ فقناة إخبارية تصف من يعتدي على الجيش المصري بـ"الإرهابيين"، وذات القناة تصف من يعتدي على الجيش السوري يوميا بأنهم "ثوار وأحرار ومجاهدون"! وفي كلتا الحالتين، في الأمر انحياز لا يليق بالإعلام.
أيضا، قنوات إعلامية كثيرة تعتبر ما جرى في مصر "انقلابا"، وأخرى تعتبره "ثورة شعبية تصحيحية"، والأنكى أن جميعها تريد منا تصديق ما يقولون عندما يتعلق الأمر بسورية، باعتبارهما يتشاركان التوصيف نفسه، ونصدق أن الجيش السوري يقتل شعبه!
سادتي، رفقا بـ"صاحبة الجلالة"؛ رفقا بالمهنية والموضوعية والحياد؛ رفقا بالرأي والرأي الآخر؛ رفقا بعقولنا؛ رفقا بمستقبل أبنائنا؛ رفقا بالأوطان والشعوب.

[email protected]