رهاب العودة يمنع أي تسوية

هآرتس

دمتري شومسكي

اضافة اعلان

كما هو معروف، مبدأ العودة غير المحدودة، خلال السعي لتحويل يهود البلاد من اقلية إلى اكثرية، وعرب اسرائيل من اكثرية إلى اقلية، لم يكن بالنسبة للحركة الصهيونية قبل اقامة الدولة مجرد طموح، بل استخدم بصورة صريحة كأحد الخطوط الموجهة وغير القابلة للتنازل عنها من قبل السياسة الصهيونية. والآن، الجزء المعتدل من الحركة الوطنية الفلسطينية التي توجد الآن، مثل الصهيونية في النصف الاول من القرن الماضي، في مرحلة ما قبل السيادة، ترى الامور بصورة مختلفة. يبدو أن تطبيق غير محدود لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم لا يتم احتسابهم ضمن كل الاهداف الملزمة، بل هو يعتبر حلم عديم المعنى العملي الحقيقي.
هكذا في محادثات طابا في 2001، اتفق يوسي بيلين ونبيل شعث، ولو بصورة غير رسمية، على اعطاء حق الدخول إلى اسرائيل لـ 25 – 40 ألف لاجئ. في عملية انابوليس اقترح الفلسطينيون اعداد مختلفة، من حد ادنى غير رسمي يبلغ 80 ألفا وحتى طلب رسمي يبلغ 150 ألف عائد إلى اسرائيل خلال عشر سنوات. مهما كان الامر من الواضح أن هناك فجوة كبيرة بين حلم عودة ملايين اللاجئين إلى حدود اسرائيل وبين الاستعداد للاكتفاء بدخول 150 ألف لاجئ. هذه الفجوة تعكس التسليم المؤلم من قبل الجهات المعتدلة في القيادة الفلسطينية مع الواقع السياسي والديمغرافي في المنطقة منذ العام 1948.
ولكن في نظر الاسرائيليين الذين تعتبر شيطنة الطرف الفلسطيني هي قوتهم اليومي فإن الاعداد المحددة التي طرحها الفلسطينيون بشكل صريح في محادثات السلام أهميتها مثل قشرة الثوم. بالنسبة لهم، الاهمية الحصرية تستهدف الروح الوطنية الفلسطينية بشأن قداسة مبدأ حق العودة الذي يقول إنه لكل واحد من الـ 5.4 مليون فلسطيني المسجلين كلاجئين في الاونروا يوجد حق شخصي غير مشكوك فيه للعودة إلى اسرائيل.
هذا الموقف احسن وصفه هنا عيدي شفارتس ("هآرتس"، 22/10/2018) اثناء مناقشة العودة الفلسطينية مع كاتب هذا المقال. يبدو لي أنه تجدر العودة إلى موقفه الآن، سواء على خلفية يوم النكبة الذي احياه الشعب الفلسطيني في الاسبوع الماضي أو بسبب أنه يمثل بصورة نقية إلى حد ما استحواذ حق العودة على معظم الجمهور الاسرائيلي، الذي يمنع أي تقدم في الطريق نحو تسوية دائمة.
حسب شفارتس فانه حتى لو وقعت قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية ذات يوم على اتفاق دائم في اطاره يتم التقرير بإعطاء امكانية الدخول لاسرائيل لـ 100 ألف فلسطيني على الاكثر يمكن للطرف الفلسطيني خرق هذا الاتفاق. لأن الفلسطينيين يواصلون التمسك بالقرار 194 للامم المتحدة في كانون الاول 1948 والذي حسب المحللون الفلسطينيون يلزم بتطبيق كاسح لحق العودة إلى حدود اسرائيل. فقط اذا تنازل قادة القومية الفلسطينية بصورة صريحة عن مبدأ حق العودة مهما كان من خلال التخلي الصريح عن القرار 194، قال شفارتس، سيكون بالامكان التوصل إلى حل للنزاع والتوصل إلى تسوية سياسية.
من المفيد رؤية كيف أن رهاب العودة يمكنه أن يخلق حجج ذات دحض شديد للنفس. حيث أنه اذا افترضنا منذ البداية أنه فور التوقيع على اتفاق يحدد نهائيا عدد اللاجئين الذي سيسمح لهم بالعودة إلى اسرائيل فان الفلسطينيين يمكن أن يمزقوه اربا اربا والمطالبة بعودة الملايين على اساس قرار 194، ما الذي سيزعجهم للتصرف بهذه الصورة حتى بعد أن يوقعوا على اتفاق يتضمن تنازل عن حق العودة؟ فمن اجل ماذا الجلوس إلى طاولة المفاوضات في الوقت الذي يسود فيه عدم ثقة بهذه الدرجة بالطرف الآخر؟.
السلطة الفلسطينية مستعدة للتنازل عن حلم العودة الجماعي والموافقة على تقييد عملي لعدد العائدين الفلسطينيين إلى اسرائيل، بحيث أن عددهم يكون صغير حتى بالمقارنة مع عدد اللاجئين الذين فقدوا وطنهم في 1948 (150 ألف شخص حسب طلب الفلسطينيين في انابوليس مقابل 700 ألف لاجيء حتى بداية 1949، ولا نريد التحدث عن ملايين احفاد اللاجئين.
بدلا من الالغاء المطلق لمغزى هذا الاستعداد من الافضل تقدير التوجه التصالحي للاجزاء المعتدلة في الهوية الفلسطينية في هذه المسألة المؤلمة. في حين أن فكرة العودة إلى كل اراضي فلسطين بقيت كحلم، يمكن الافتراض بأنه في اوساط القيادة الفلسطينية في رام الله هناك من يخافون بأنفسهم من احتمالية أن يتحقق هذا الحلم.
هكذا، كأبناء شعب تحولوا خلافا لارادتهم من اكثرية إلى اقلية في وطنهم، فان هذه الجهات الفلسطينية البراغماتية تدرك أن انقلابا ديمغرافيا عنيفا يمكن أن يؤدي إلى سفك الدماء. هم يدركون جيدا أن هذا هو السيناريو المتوقع لبلاد عانت من الصعوبات. وذلك مع قدوم ملايين الفلسطينيين إلى اسرائيل ضد ارادة الاسرائيليين. لذلك هم مستعدون وبصدق للتسليم مع تحديد عدد العائدين كما طرحوه رسميا في انابوليس.
كيف يمكن لإسرائيل التعبير عن تقديرها تجاه التنازل العملي الواضح للمعتدلين الفلسطينيين بخصوص تطبيق عودة الملايين؟ هكذا، مقابل الموافقة النهائية والمطلقة للفلسطينيين على تقييد عدد اللاجئين العائدين، على اسرائيل الاعتراف بالشرعية المبدئية للعودة ومسؤولية الصهيونية الاخلاقية عن خلق مشكلة اللاجئين والاعتذار بصورة صريحة عن النكبة.
هذه الخطوة ستكون خطوة حكيمة وعادلة في نفس الوقت. خطوة عادلة لأن الطرد والتهجير القصري لمئات آلاف المواطنين غير المسلحين الذين لم يكن لهم أي دور في القتال، كانت تشكل ظلما اجراميا لا يمكن بأي شكل من الاشكال تبريره برفض القيادة الفلسطينية تقاسم وطنها مع مستوطنين جاءوا منذ فترة قريبة. هذه الخطوة عادلة بشكل خاص ازاء حقيقة أنه في جزء من الاماكن رافق هذه العملية اعمال سلب ومحو قرى عن وجه الارض وانتهى مع السلب الرسمي للاملاك الفلسطينية حسب قانون املاك الغائبين. وأن تحمل المسؤولية والاعتذار عن جرائم الماضي تعتبر شروطا اساسية وضرورية لاستعادة العدل بالنسبة لعلاقات الشعوب في الحاضر. وستكون هذه خطوة حكيمة لأنه بدون اعتراف صادق من اسرائيل بدورها الاساسي في الكارثة القومية الفلسطينية، لا يمكن التوصل إلى مصالحة حقيقية بين القومية الصهيونية والقومية الفلسطينية.