رهان التنمية لا السياسة

انتهت اجتماعات اللجنة الأردنية المصرية العليا نهاية الأسبوع الماضي في القاهرة، ورغم ان طبيعة عمل اللجنة ووظيفتها المرجوة تنموية في الأساس إلا ان صوت السياسة في تقديم هذا الحدث كان أعلى، ورغم ان الاجتماعات أفضت إلى التوقيع على (16) اتفاقية تعاون إلا انها فشلت في حل إشكاليات أصبحت من تراث العلاقات الاقتصادية بين الدولتين وعلى رأسها قصة تجارة الأدوية، وما يتعلق بتسجيلها وتداولها بين البلدين التي ترحل من اجتماع إلى آخر منذ عدة سنوات، علاوة على استمرار تواضع حجم التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي الذي لا يقارن مع حجم التعاون السياسي والتنسيق والتكامل في المواقف الاقليمية والدولية.

اضافة اعلان

صوت السياسة أعلى ويقفز فوق التنمية والتعاون الاقتصادي، وهذا رهان خاسر بالطبع، لان عظام السياسة ستبقى هشة وطيعة على الكسر إذ لم يكسها لحم الاقتصاد والتكامل التنموي. ومن مفارقات مناخ اجتماعات اللجنة الأردنية المصرية العليا بأنها لم تحظ بأي قصة إخبارية تمهيدية أو تسجيلية في صحيفة "الأهرام"، على سبيل المثال، إلا في واحدة تناولت لقاء الرئيس مبارك بالدكتور البخيت بعد انتهاء تلك الاجتماعات التي جاءت في خلفية القصة الإخبارية.

صحيح ان التنسيق السياسي الأردني المصري يشهد ازدهارا وصل إلى وصفه بالمحور السياسي. لكن هذا الأمر لم يترجم إلى حقائق عابرة للحدود، فالحقائق الصلبة في السياسة تكمن في الاقتصاد والموارد والمصالح المتبادلة، ولم تكن في يوم في السياسة وحدها.

هذه الحقائق عرفها العالم وتجاوزها قبلنا بعقود وأصبحت من أبجديات العلاقات الدولية. الأوروبيون دشنوا عصر التكامل باتفاقيات الحديد والصلب والاتحادات الجمركية، في الوقت الذي كان فيه طعم مرارات الحروب والصراعات يملأ الأفواه وقبل ان يتحدثوا عن تكامل سياسي، فالقوة الصلبة في العلاقات الدولية هي العلاقات الاقتصادية وحجم التبادل الذي يخدم قضية التنمية.

نتحدث عن فشل مشاريع التعاون الاقتصادي العربية، واكتشف الأكاديميون مؤخرا ان بيت الأسرار الذي تطل في كل مرة منه أشباح فشل التعاون الاقتصادي يكمن في تشابه هذه الاقتصادات؛ فهي تشترك بكونها اقتصادات أولية، تتشابه في تخلفها، وتتشابه في مشاكلها، كما تتشابه في نمط سلعها وصناعاتها، فبماذا تتكامل هذه الاقتصادات وتتعاون؟! وللأسف صدق السياسيون هذه الأسطورة، وحتى في التجارب العربية المحدودة والمتواضعة، وكما هو معروف كانت حاجات التنمية والتعاون الاقتصادي تأتي نتيجة للتفاعلات السياسية وليس العكس، وبينما لم يتحقق معظم ما وعدت به السياسة الناس من كلام للاستهلاك في مجالات التكامل والتعاون التنموي والاقتصادي، إلا ان المرات القليلة، التي تزامنت فيها التفاعلات السياسية مع تفاعلات تنموية، أثبتت كيف تذهب المحاور السياسية وتزول وتبقى القوة الصلبة في الاقتصاد والتنمية؛ ألم تذهب محاور قوة الفقراء وضعف الأغنياء قبل عقود وبقيت الهيئة العربية للتصنيع بالرغم مما نال ملكيتها من تغير، وذهب محور دول مجلس التعاون العربي  ولم يعد يذكر لا بالخير ولا بالشر وبقيت شركة الجسر العربي؟

بالعودة إلى التعاون التنموي والاقتصادي المصري الأردني، نجد ان اللجنة العليا المشتركة هي أقدم اللجان العربية التي حافظت على استقرار اجتماعاتها وديمومتها منذ أكثر من عقدين، ومع ذلك فان حجم التجارة بين البلدين لم يتجاوز 300 مليون دينار وحجم الاستثمارات المتبادلة لا يزال متواضعا ويميل لصالح مصر مقارنة مع حجم اقتصادها الذي يتجاوز (90) بليون دولار، وبينما يحصل التقدم في المجالات ذات السمة الدولية مثل الربط الكهربائي ونقل الغاز وتسهيلات التجارة الحرة.

التعاون الثنائي لم يحقق إنجازات حقيقية، ولقد قادني فضول المعرفة للعودة لأرشيف هيئة الاستعلامات المصرية لمراجعة مضامين اجتماعات اللجنة العليا في آخر ثلاثة اجتماعات؛ لا شيء! فالموضوعات عادة تتكرر حتى في العناوين وربما بعضها لم ينله سوى تغيير التواريخ، باستثناء ان أسماء المسؤولين المصريين شبه مستقرة بينما تتغير أسماء المسؤولين الأردنيين باستمرار.

ان استقرار العلاقات السياسية بين البلدين والتعاون الذي يربطهما بالسعودية بحاجة ماسة ان يتعضد بتعاون تنموي واقتصادي جاد. هناك مجالات وأفكار عديدة يمكن ان يدشن عليها أهم محور تنموي عربي. قبل أسابيع كتب الدكتور عبد المنعم سعيد مدير مركز دراسات الأهرام؛ كيف يمكن ان يبني العرب قدرات وموارد جديدة وان تحمى في إطار جماعي؛ عن تعاون عربي مشترك يجمع مصر والسعودية والأردن في مجالات الطاقة النووية السلمية، والى جانب الطاقة يمكن الحديث عن المياه وعن الاستثمار المشترك في مجالات تكنولوجيا المعلومات، وعن أفكار مبدعة وثرية في مجال السياحة، الرهان الحقيقي على التنمية وليس السياسة.