روائيون ولدوا بعد أوسلو

قبل عشرة أشهر في غزة، أهداني كريم أبو الروس، الشاب العشريني اليافع، روايته "غريق لا يحاول النجاة". أخذتها بتوق لقراءة ماذا يكتب شاب من غزة. ولكني تساءلت داخلياً، ما الذي قد يكتبه شابٌ صغير على شكل رواية؟ كم هي التجارب والمشاهد والخبرات التي عاشها ليعكسها في رواية؟ اضافة اعلان
قبل يومين، أثناء قراءتي كتاباً للمُنظّر ألكسندر فندت، رائد النظرية الاجتماعية في العلاقات الدولية، وضعت الكتاب جانباً، لأتأمل سطورا جديدة كتبها كريم على وسائل التواصل الاجتماعي.
مهند الأخرس، محامٍ وسياسي شاب من مخيم البقعة في الأردن، كتب رواية، "الجرمق"، عن الفدائي "ِشبه الأسطورة"، علي أبو طوق، الذي ارتقى شهيداً دفاعاً عن مخيمات صبرا وشاتيلا العام 1987، عن 37 عاما.
قبل عام قال أستاذ جامعي، "يا إلهي طلبتنا الآن من مواليد 2000"، وأضاف آخر "لم يعرفوا انتفاضة الأقصى". وعندما تتأمل كريم وغيره تقول "يا إلهي روائيون فلسطينيون ولدوا بعد اتفاقية أوسلو".
بين "جرمق" الأخرس من البقعة، وكريم "رفح"، تشابهٌ، وهو أنّ جزءا أساسيا مما يكتبانه، حوارات وأحاديث بين الشباب في المخيم والشارع والإنترنت.
كريم يكتب عن أحاديثه مع صديقته، ليندا، يلتقيها في مقهى في غزة، حيث لقاء شاب وفتاة، وشرب القهوة معاً، ليس "مسألة" سهلة.
يخبر كريم، ليندا، أنّه ولد العام 1994. يخبر الفتاة الأولى التي يتحدث معها، أن ولادته كانت مفاجِئة "حالة طارئة"، كان يجب أن تذهب أمه للمستشفى، ولكن كانت هناك مواجهة بين "مقاومين" والجيش الإسرائيلي، فولد على يد الداية خضرة. يضحك هو وليندا (في الرواية)، على قصص الأطفال وهم يهربون للعب في الشارع. أقول: كم هو موضوع ممل؟.
قبل يومين، كتب كريم على حسابه على فيسبوك، نصّا يتساءل فيه صديقه مهند يونس، "ماذا تسمع صباحاً يا كريم؟". تذكرت خليل الذي أخبرني أنه عندما بدأ القصف الإسرائيلي يوم لقائي معه في غزة أخذ المسجل وجلس يستمع لفيروز على سطح البيت منتظراً الصاروخ التالي.
رد كريم على مهند: "موسيقا سادة ..أروق"، فيخبره مهند "ما رأيك أن تسمع أغنية محمد حماقي "ذكريات ميح". اسم الاغنية لا يشجعني، والمغني لا أعرفه. لكن أذهب لليوتيوب وأسمعها. أعود للنص، ويناجي كريم مهند: "صرت كل يوم بسمعها يا مهند، رحمة ومغفرة لروحكَ، رحمة ومغفرة لقلبكَ، رحمة ومغفرة لأثرك. الذكرى الثانية على رحيلكَ (…)، اشتقنالك يا مهند يونس".
إذن، ماتَ مهند. من هو؟ لم أهتم كثيراً في البداية. لكن كتاب الكسندر فندت، الذي كنت منشغلا به، يقول إنّ 500 سلاح نووي بريطاني لا تقلق الولايات المتحدة، وتقلقها خمسة أسلحة كورية شمالية، لأنّ معنى السلاح وسياقه هو الذي يخلق المعنى؛ ليس كمية ونوع السلاح. تماماً مثل أحاديث أولاد المخيمات، وأغنياتهم الركيكة، يصبح لها معنى آخر. كثيرا ما أفاجأ كيف يصبح لأحاديثهم معنى إذا وضعتها في سياقها.
ظل مهند يونس، يلح عليّ. بحثتُ على محركات البحث، تذكرته. طالب الصيدلة، الأديب الشاب، الذي انتحر قبل عامين، في عمر 22، باستنشاق الغاز، في غزة. تقرأ نصوصه القصصية الواعدة جداً، فيها حديث مع فتاة، مثل حديث كريم وليندا. مهند يتخيل أول رجل وامرأة رأيا بعضهما في التاريخ، وأن المرأة أعجبت بجمال جسد الرجل، وانتبهت للاختلاف المثير بين جسديهما. هذه الأنثروبولوجيا الروائية، تتنحى عندما يكتب مهند عن غزة، ويقول إنّها مثل برلين الشرقية العام 1945، محاصرة. كثير من نصوصه حوارات مع أصدقائه، ومع نفسه، عن طموحاته التي تلاحقه رغم محاولته كبتها، تلاحقه على درج البيت، وتحت الوسادة، ولم تمنعه من الانتحار.
يتخيل مهند في نصٍ كتبه قبل انتحاره، "هاتفٌ يرن في منزل الجيران المهجور، وصدى رنينه يتردد باستفزاز، هناك هاتفٌ يرنّ ولا أملك الإجابة عليه ولا إغلاق أذنيّ (…)هاتفٌ يدقّ، ولا يكف أبدًا عن الرنين، مثل قلبي" .مرة أخرى قلق الحوار والأحاديث، حتى الغائب منها.
للتفاصيل والحوارات الصغيرة في روايات شباب ما بعد أوسلو معانٍ قد لا تفهمها لأنّ هناك فجوة بين عوالمهم وعوالم من سبقوهم، إلا عندما تصدمك تفاصيل حياتهم. ولكنها حوارات تعكس محدودية الآفاق حولهم، تعكس "حياة معلقة".