روسيا وأوكرانيا: العائلة الأوكرانية التي شتَّتتها الحرب في الحياة والموت

فلاديمير وعائلته قبل المأساة التي تعرضوا لها جراء الغزو الروسي
فلاديمير وعائلته قبل المأساة التي تعرضوا لها جراء الغزو الروسي

كل يوم، يذهب فلاديمير إلى كاتدرائية التجلي المقدس في مدينة فينيتسا غربي أوكرانيا، ليضيء شمعتين، واحدة من أجل ابنته ناتاشا، والأخرى من أجل ابنتها، حفيدته، دومينيكا، التي كانت في الرابعة من عمرها عندما قتلت مع أمها في أوائل مارس/ آذار جراء إحدى القذائف الروسية، التي سقطت على مدينة ماريوبول المحاصرة حينها.

اضافة اعلان

يقول لي فلاديمير وهو يجلس في الحديقة الخلفية الهادئة للكاتدرائية ذات الزخارف المذهلة والمبنية على طراز الباروك "آتي يوميا إلى هنا. أتحدث إليهما، وأمضي بعض الوقت، وأبكي، وهذا يمنحني شيئا من الارتياح".

ويضيف "إنه بيت الله، وبين جدرانه أجد بعض العزاء. دائما أقول لهما 'ابنتاي العزيزتان، سيأتي اليوم الذي نجتمع فيه من جديد".

قابلت فلاديمير للمرة الأولى في مستشفى الأطفال في مدينة زابوريزهزيا جنوب شرقي البلاد قبل ثلاثة أشهر.

كان حزينا على فقدان ناتاشا ودومينيكا بشكل يصعب مواساته، لكنه كان يحاول أن يظل متماسكا من أجل ابنته ديانا البالغة من العمر 13 عاما، والتي كانت في وضع حرج بسبب إصابتها بالقذيفة التي أودت بحياة أختها.

كانت إصابات ديانا بالغة، وكانت راقدة في السرير شبه غائبة عن الوعي في العنبر الذي يضم أطفالا آخرين من ضحايا الحرب. وفي تلك المرحلة لم يكن الأطباء واثقين في ما إذا كانت ستتمكن من النجاة.

تمكنت ديانا من النجاة بحياتها بأعجوبة، وإن كان الطريق أمامها ما يزال طويلا وصعبا، وقد لا تتعافى تماما من إصابتها، فقد ترك انفجار القذيفة شظية في دماغها، وألحق أضرارا بجزء كبير من الجانب الأيمن من جسدها.

وبفضل جهود شبكات غير رسمية من الأطباء والجمعيات الخيرية الطبية، نقل العديد من الأشخاص الذين أصيبوا في الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا، ومن بينهم أطفال كانوا في مستشفى زابوريزهيا، إلى ألمانيا حيث أجريت لهم جراحات معقدة، لم يكن إجراؤها ممكنا في أوكرانيا.

ديانا
كان الأطباء يشكون في أن تتمكن ديانا من النجاة بحياتها

من بين هؤلاء فتاة اسمها ماشا، وقد احتفلت مؤخرا بعيد ميلادها السادس عشر في مستشفى ألماني شرقي البلاد.

قالت ماشا "شكرا لك". كان صوتها واهنا منخفضا وهي تتقبل منا هدية صغيرة. وبالتأكيد لم يكن هذا المستشفى في بلد أجنبي هو المكان الذي كانت ترغب في أن تحتفل فيه بهذه المناسبة المهمة في حياتها كفتاة في سن المراهقة.

إنها بعيدة عن ديارها ومنزلها، وليس بصحبتها أحد من عائلتها سوى جدتها، لكنها على الأقل في أيد أمينة الآن، وقد بدأت صحتها تحرز تقدما.

عندما التقينا ماشا للمرة الأولى قبل ثلاثة أشهر، كانت مثل ديانا، تكافح من أجل حياتها، وراقدة في المستشفى نفسه في مدينة زابوريزهزهيا.

كان انفجار قذيفة روسية قد ذهب بساق ماشا اليمنى، كما تسبب لها بجروح خطيرة أخرى. وقد أصيبت بصدمة شديدة لدرجة أنها ظلت لأيام ترفض أن تأكل أو تتكلم.

تقول فالنتينا فيشينكو، وهي جدة ماشا ورفيقتها الدائمة التي تلازمها طوال الوقت في المستشفى "إنها أفضل حالا بكثير الآن. لقد كانت رافضة تماما أن تتناول الطعام، وكنا خائفين جدا على حياتها".

وتضيف فالنتينا "لقد أجريت لماشا 24 عملية جراحية حتى الآن، وجميعها تحت التخدير العام، كما كانت تأخذ المورفين أيضا، لقد كان الأمر صعبا عليها للغاية".

ماشا
خضعت ماشا لـ 24 عملية حتى الآن

ولكن على الرغم من كل ما مرت به، يبدو أن ماشا تتفاعل مع الوضع بشكل جيد، أما الابتسامة التي ترتسم أحيانا على ثغرها فهي جديرة بأن تذيب حتى أكثر القلوب قسوة.

ويمكن القول إن ماشا تعتبر محظوظة لدرجة كبيرة لأنها تتلقى العناية التي تحتاجها، ولأن جدتها التي تحتاج وجودها بقربها وتلازمها طوال الوقت، كما أن بقية أفراد أسرتها موجودون في الجوار، وهم يتعافون من إصابات أقل خطورة أصيبوا بها في الهجوم الصاروخي نفسه.

ديانا في ملابس الرقص قبل إصابتها
تأمل ديانا أن تتمكن من العودة إلى الرقص يوما

وتخبرني ماشا بأنها تتذكر ديانا، التي كانت معها في نفس العنبر خلال الوقت الذي أمضته الفتاتان بالمستشفى في زابوريزهزهيا.

لقد تم نقل ديانا أيضا إلى ألمانيا، وهي تتعالج في مستشفى آخر أبعد قليلا باتجاه الغرب.

قبل اندلاع الحرب كانت ديانا راقصة موهوبة، وقد سافرت مع فريق بلدها إلى جميع أنحاء أوروبا للمشاركة في المنافسات.

وبينما كنا نتحدث مع والدتها في حديقة المستشفى وقد بدأ المطر يتساقط بشكل ناعم خفيف، قالت ديانا "أفتقد دروس الرقص بشكل كبير. كانت مجموعتنا رائعة حقا"، وتضيف "أتمنى بشدة أن أتمكن من الرقص مرة أخرى."

لكن الشيء الذي ترغب به حقا ديانا، التي أصبحت الطفلة الوحيدة على قيد الحياة في عائلتها، وتتمناه أكثر من أي أمر آخر، هو أن يكون والدها فلاديمير إلى جانبها.

وهي تتواصل معه يوميا، ويتمكن الاثنان من الحديث وتبادل الاطمئنان على بعضهما عن طريق مكالمات الفيديو. ومن الواضح أن العلاقة بين الأب والابنة قوية بشكل خاص، وقد زادت الأحداث الأخيرة من تعلق أحدهما بالآخر.

وتقول ديانا "أنا سعيدة لأنني أتمكن من رؤية والدي عبر الهاتف، لكنني أتمنى لو أنني أتكلم معه وجها لوجه كما أتحدث معك الآن".

وتقول فيكتوريا، والدة ديانا "إنه يساعد بالفعل.

ويحمل إلينا بعض الراحة. نتحدث أحيانا، وهذا يبعث على الارتياح"، وذلك في إشارة إلى إمكانية التواصل مع زوجها بفضل التكنولوجيا الحديثة في وقت تحاول فيه التعامل مع حقيقة خسارتها لابنتها وحفيدتها.

ديانا ووالدتها فيكتوريا
ديانا ووالدتها فيكتوريا

لقد خففت التكنولوجيا الحديثة من حدة الفراق بين الأحبة، وجعلته إلى حد ما أقل إيلاما، ولكن مع الوضع الصعب الذي لا تزال ديانا تعاني منه، تشعر هذه الأسرة التي فجعت بموت اثنين من أفرادها بحاجة شديدة إلى التئام شملها.

وتقول الأم "في البداية، كانت ديانا تخشى أن تسأل عنهما، لكننا لاحقا تحدثنا إلى طبيب نفسي، وقال لنا إنه من الأفضل أن نتحدث عن الأمر. بالنسبة لنا، إنهما لم تموتا، وإنما كأنما هما موجودتان في مدينة أخرى، أو في دولة أخرى".

حتى الآن، وبسبب حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي أعلنت في أوكرانيا، لم يتمكن فلاديمير من السفر إلى الخارج ليكون إلى جانب زوجته وابنته الوحيدة الباقية على قيد الحياة.

وعلى غرار كافة الرجال الأوكرانيين الذين هم في سن صالحة للمشاركة في الحرب، أي الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و60 عاما، لا يمكن لفلاديمير مغادرة البلاد، إذ يمكن أن يستدعى للقتال، كما قد يرسل إلى خط المواجهة مع القوات الروسية للدفاع عن المدن الواقعة في إقليم دونباس.

لكن هذا الرجل المكلوم الذي يبلغ عمره 52 عاما، والجالس في إحدى الزاويا داخل كنيسة أرثوذكسية، وهو يغالب دموعه حزنا على فقدان ابنته وحفيدته، لا يبدو في وضع صالح لحمل السلاح والمشاركة في القتال.

ويقول فلاديمير بصوت هادئ ولكنه يشي بتصميم واضح "إذا أعطوني التصريح، فسأذهب بالتأكيد إلى ألمانيا. لا يمكنني أن أبقى بعيدا عن عائلتي، فأنا أفكر بهما باستمرار".

ويضيف "علي أن أذهب لأكون معهما وأقدم لهما الدعم. من أجل ديانا، من أجل زوجتي، وحتى من أجل ابنتي وحفيدتي اللتين توفيتا. يجب أن أستمر في الحياة من أجلهم".

ومع اقتراب موعد خضوع ديانا لعملية جراحية أخرى في الدماغ في غضون أيام، يحاول فلاديمير جمع التأييد والدعم للضغط على الرئيس فولوديمير زيلينسكي مباشرة لكي يحصل على إذن بالسفر.

في الساعة الحادية عشرة من ليلة الأحد شعر فلاديمير أن الله استجاب فعلا لصلاته، وحصل على إذن رئاسي بمغادرة أوكرانيا.

ورغم أن ابنته لا تزال في حالة صحية خطيرة جدا، ولكن على الأقل سيكون والدها إلى جانبها الآن، خصوصا خلال الوقت الصعب في انتظار عملية جراحية في الدماغ.