“زمن السبكي”

في الرابع والعشرين من الشهر الثامن، من العام الفرديِّ، 1997، أطفِئت الأضواء في دور السينما العربية، وتوقفَ عرضُ فيلم “المصير”، للمخرج يوسف شاهين، والفذّ نور الشريف. الفيلمُ كان في زمن الأندلس الضائع، والأحداث تدورُ حول قاضي قرطبة، الفيلسوف ابن رشد، الذي اتهم بالكفر والإلحاد، وأُحرقتْ كتبه، فهزمَ السلفُ الاجتهادَ، ولم تجدِ تلك الصرخة الغنائيّة التي أطلقَها، محمّد منير، بحمولتِها الشعرية: “علّي صوتك بالغُنا”، ففي اليوم التالي، مساء الخامس والعشرين، صَعَدَ “أفيش” فيلم “اسماعيلية رايح جاي”، على واجهات دور السينما العربية، ثمَّ سادَ السلفْ.اضافة اعلان
مُغنٍ متوسّطُ الموهبة، اسمه باختصار غير موسيقي “محمد فؤاد”، وممثلٌ اعتادَ المخرج “نادر جلال” أنْ يسندَ إليه أدوار الإسفنجة التي تتلقى صفعات “عادل إمام”، وجسده ضئيل، واسمه محدودٌ بـ”محمّد هنيدي”، وهناك أيضاً “خالد الصاوي”، و”حنان الترك”، وهما ممثلان جيِّدان نزلا من عالم “شاهين” إلى فيلم سطحيّ، سُلق كما البيض البلديِّ، تخلى عنه المنتج الأول، أما الثاني فهوى بالسّعر إلى أقل من مليون جنيه، وأضيف للفيلم أغنية مصابةٌ بـ”الخَنَفْ”، “كمانْنّا”؛ ثم سادَ زمنُ “الحاج أحمد السبْكي” وكُسر من الإيمان ضلعٌ بأنْ “لسّة الأغاني ممكنة”.
لم يكن ذلك الصيفُ تاريخاً للنسيان. بدأ منذ العرض الأول للفيلم “الاسماعيلي” زمنٌ آخرَ، خفيفٌ كشايِ الأرصفة، سريعٌ كالطعام المُهَدْرج، وقصيرٌ كدقائق اتصال مجّانيّة. حقّقَ الفيلمُ إيرادات كسرت كلّ الأرقام التي كانت غير قابلة للكسر، ونفض عن الأسماء الكبيرة في علوّها.. نجومَها. لم يصمد “محمود عبدالعزيز” سوى بـ”السّحْر”، ومفعوله كان لفيلم واحد فقط، وأمضى “عادل إمام” فترة اضطربٍ فنيّ انتهت بـ”الزهايمر”، وذهبَتْ “نبيلة عبيد” مُجرّدَةً من لقبها إلى شيخوخة إجباريّة. وسادَ الضحك، وأفلام “تيك اوي” المحمولة، حيّزها الجغرافي على “الساحل الشمالي”، ومواضيعها “نظرة فابتسامة” و”خُلع”، وأبطالها “اللِمْبيُّونْ”!
هرولة الأيّام كطفلةٍ أفلتت من يد شقيقها، والسنوات مرّتْ كما تُختَصَرُ في الفيلم الوثائقيِّ، ومراحل العمر دُمِجَتْ بالأجيال الخلوية. قبل الذهاب والإياب من “الإسماعيلية”، لم تكن الحياة حلوة، لكن مرّها كان له طعم، والأيام لها تواريخ مستقلة، كانت الصحف تكتبُ الكذبة ونصدقها أو نلمِّع بها “الموبيليا”، وكان لي حائط زيتيّ في غرفة الأشقاء، معزولٌ عن الهاتف الأرضيِّ، وسهرة الخميس الجريئة على التلفزيون السوريِّ، كتبتُ عليه “القصائد المغضوب عليها”، وألصقتُ به صور “جمال عبد الناصر” متجهماً، و”ياسر عرفات” ضاحكاً، و”عبد الحليم حافظ” ساهماً، و”أحمد زكي”، بلحية احتجاج “ضد الحكومة”.
جالسٌ “الآن.. هُنا”، على درج سينما “النصر” في منتصف الزرقاء. أنتظرُ أنْ يرتفع “افيش” الفيلم الجديد “ناصر 56”، قرأتُ في الصفحة الفنية بصحيفة “شيحان” أنّ الفيلمَ بالأبيض والأسود، فلم أعتنِ بالملاءمة بين الألوان، خرجتُ بقميص أبيض، وبنطال أسود، واندمجتُ في حركة الماشين ضدّ السير. أنا لا أهذي، ومن المبكر أنْ أشكَّ بإصابَتي المتأخِّرَةِ بـ”الزهايمر”، هذا ما حدثَ في الثاني من الشهر الثامن من العام شبه الفرديِّ 1996، قبل أنْ تحرقَ مؤلفات ابن رشد، ويموت عبد الناصر ميتته الغامضة، وينظر “أحمد زكي” من نافذة في مستشفى “دار الفؤاد” إلى زمن “محمّد هنيدي”!