زمن جمال..

ثلاثة وأربعون عاماً مرّت أمس على رحيل الزعيم المصري جمال عبدالناصر سنة 1970، وما يزال اسمه حاضراً بقوة في الوعي العربي. ولا يستطيع أبناء جيلي المتوسط قول الكثير عن تفاصيل علاقة الناس بعبد الناصر، لأننا أدركناه في أواخر أيامه. لكنّني أتذكر من طفولتي أنّ صورة عبدالناصر تصدرت حائط غرفة الضيوف في منزلنا، في وقت خلا فيه الحائط من صور أي فرد من العائلة. وعندما توفيّ عبد الناصر، وضعت أمّي شريطاً أسود على زاوية الصورة حِداداً، وكذلك علماً أسود على شباك المنزل. وفي الحقيقة، ارتفعت الكثير من رايات الحداد على المباني والسيارات. ولا أعرف بالضبط كيف تشكلت الوشائج بين الناس في العالم العربي وبين جمال عبد الناصر البعيد في القاهرة. لكنّ ذلك الرجل استطاع بالتأكيد أن يكسب محبة البسطاء، ربّما لأنه روى فيهم بذرة الأمل.اضافة اعلان
بالإضافة إلى الصورة على الجدار، كان الحضور الروحي المحسوس للزعيم في البيت. كان المذياع "الترانزستور" مفتوحاً معظم الوقت على إذاعة "صوت العرب" القاهرية. وفي مناسبات كثيرة، ترددت مقولات عبد الناصر في البرامج وفيما بينها: "ما أُخذ بالقوة، لا يُستردّ إلا بالقوة." "إنّ حرية الكلمة، هي المقدمة الأولى للديمقراطية." "(إنّ) منطق هذا العصر -ولعله منطق كل العصور- أن الحقَّ بغير القوة ضائع، وأن أمل السلام بغير إمكانية الدفاع عنه استسلام، وأن المبادئ بغير مقدرة على حمايتها أحلام مثالية مكانها السماء، وليس لها على الأرض مكان".
إذا كان هناك خطاب إذاعي للزعيم، كان الناس يتسمرون عند أجهزة الراديو، أو يذهبون إلى قريب أو صديق عنده مذياع ليسمعوه، وتكاد الشوارع تخلو من المارة وكأنه حظر تجوال. ولم نكن نفهم –نحن الصغار آنذاك- أهمية ما يُقال في الخطاب وما يقوله السامعون وهم يناقشون مضمونه. لكن خطابات عبدالناصر كانت حدَثاً لا يمكن أن يمر دون أن يُلاحظ بقوة، ويشيع أجواءً أقرب إلى الإيجابية. كان الناس يصدقون عبدالناصر، ونادراً ما رأينا الناس يصدقون زعيماً بعده، أو أقوالاً أثبتت الأيام صلاحيتها كأقواله.
تلك الأيام في الستينيات، كان بث إذاعة "صوت العرب" المسكون بشخصية عبد الناصر أشبه بإذاعة حربية، مليئة بالبيانات والأناشيد الوطنية. ومع أن عاقلاً لا يفكّر في الحرب كشيء إيجابي، فإنّ ذلك الجوّ الموسوم بالحماسة في زمن الهزيمة، كان يروق لأناس عنى لهم فض الاشتباك مع العدو التسليم بالهزيمة كنهاية. وحتى بعد نكسة 67، لم تكن روح الهزيمة الكاملة قد أطبقت بعد على وعي الناس المتشبثين ببعض الأمل. ولذلك، غلب التعاطف مع ناصر على تحميله المسؤولية عن الهزيمة، ربّما لأنّ السوابق العاطفية معه جعلت ما حدث أشبه بكبوة حصان لن يلبث حتى يقوم ويصهل من جديد.
عندما كبرنا، اكتشفنا أن عبد الناصر شخصية جدلية. هناك من يجلّونه كقائد شعبي لا يتكرر، وهناك من يذمونه ويعتبرونه دكتاتوراً عسكرياً قمع المعارضة. لكنّ أي مقارنة موضوعية بين أدائه وأداء أيّ زعيم آخر، يغلب أن تصب كثيراً في مصلحته. فبالإضافة إلى تناقضه الصريح مع الغرب الإمبريالي وكراهية الغرب له، استطاع أن يجعل من مصر في زمانه، كطليعة للعرب، قوة مشاكسة يُحسب لها حساب. وأحدثت مشاريعه الاقتصادية والاجتماعية تحولات مميزة في الحياة المصرية على طريق صاعد. أما الأهمّ، فهو أننا لم نسمع عن أحد من أولاده أو أفراد عائلته ورث منصباً أو تحكم بالعباد بالوراثة. وسمعنا أن عبدالناصر أكمل بناء بيته البسيط بقرض من البنك بضمان راتبه، وكذلك حال سيارته الخاصة. ولم يُعلم أن له مليارات، أو عشرات من الدولارات في بنوك سويسرية ولا أملاكا وإقطاعيات في عواصم غربية. وهذه صفات اختصّ بها وحده بين الزعماء العرب المعاصرين.
بطبيعة الحال، لا يمكن أن يُذكر عبد الناصر بمعزل عن فكرة القومية العربية. ومع أنّ بعض اليائسين من العرب أصبحوا يأنفون هذه الفكرة، ويصفها أجانب بالشوفينية، فإنّ افتتان الناس بقوميّة عبد الناصر يدعم صلاحية الفكرة للوعي الجمعي العربي كمبدأ. والحديث يطول، لكن تلك الأيام –بعجرها وبجرها- تنتمي قياساً بالحاضر إلى زمن جميل: زمن جمال.

[email protected]