زهرة لوز وقمر اسمه أحمد

احتل الحكاية خلال شهر تقريبا، تمكن من أن يعلن بأن الفراغ مدّ فلسطين كلها والعرب جميعهم، بطاقة هائلة من الحب والأمل. لم يكن يتحرك في متاهة الخوف، كان يتوارى فقط عن الأنظار، ويلامس أشجاره بخفة مطارد يعرف أين سيمضي بالضبط، لا يريدها أن تنكسر وهو يركض إلى جنته، حتى لا تتألم أو تعاتبه.اضافة اعلان
وتماما كحكاية نسجتها الجدات عن بطل طالع من بين الحواكير وأشجار الجميز، ليقتل الغول، مضى أحمد نصر جرار، بكل ما أوتي من أحلام، وما لثمه من أغان عن الحرية والنصر والتحرير، لم يكن يملك أكثر من لحظته، بضعة أيام ويكون فيها قد تفقد التراب والدروب، ورأى كيف يجعل عدوا بكامل سلاحه وتقنياته وحذره وعسسه، مرتبكا أمام خطوات فتى تشرق له الشمس، ولا يشبه إلا الحب والمواويل الفرحة بالحياة.
وفي كل مرة كان يتوارى فيها عن الأنظار، كان يمر بشجرة، أو يصغي لصوت أطفال يلعبون لعبة المطارد، بطلها اسمه الذي يتصادى في الجبال، فيمضي مبتسما، كعادته وهو يحلق في الصور التي تناثرت لتقول كم كان متفتحا في سهول الدحنون والزعتر، يمضي بابتسامته الدافئة، ليدبر مكيدة كونية للعبوس، ويزينها بملامحه التي نحتتها لوزة، حين كان يذهب لمدرسته، يستظل بفيئها، ثم يمتعض قليلا وهو يراقب ظلال العدو من هناك، متحينا بزوغ لحيته وشاربيه لكي يؤرقهم ذات ظهيرة، لن ينسوها إذا بقيت لهم حياة على هذه الأرض.
لم يكن يريد أكثر من ذلك، أن يؤرقهم، ويحرمهم من النوم الذي حرموه منه، يوم عاد إلى منزله، وسمع صدى صوت والده يتلو سورة الفتح في أرجائه، وحين سأل والدته عن الصدى، أخبرته أنه ذهب ليزرع شجرة لها في الجنة.
كانت بندقيته مجرد بوصلة تحدد الطريق إلى فلسطين، ودائما ما كان يتساءل: أليست هذه فلسطين التي تتبعثر روحي في هوائها، فلماذا أريد المشي على تلك الطريق التي تشير إليها بوصلتي، وأنا أمشي فيها وبها وأتنفس رحيقها؟
لم يكن الجواب صعبا، أو بعيدا عن مدى توقه لأن يجعل قلق العدو أكبر هذه المرة، وأن يضعه أمام حقيقته المدججة بالضغينة والكراهية والموت. كان يرى جنود العدو، عراة، بلا أسلحة أو أحلام، قاماتهم أقصر من الحشائش التي تنحني لقدميه حين يعبر تلا أو سهلا.
حتى الطرقات، كانت تزيل عثراتها من أمامه ليعبر، والعصافير تخفق له بأجنحتها حين تراه، كان يعرف ذلك تماما، ويلمسه بروحه التي كانت تعرف إلى أي حياة ستمضي، وفي أي حقل ستبذر أقمار الأمل والحرية بعد قليل.
مشى هنا، وتوارى هناك. ترك وراءه أجمل ما يمكن لعاشق أن يتركه لحبيبته، بندقيته النائمة قرب جسده الجميل، وأغنية يكتبها شاعر ستظل محدقة في وجه قتلته، وزهرة لوز تكبر اليوم، ويأتي أولاد المدارس ليستظلوا تحت أزهارها في الربيع، ويكتبوا على جذعها عند بزوغ القمر اسمه: أحمد.