زواج القاصرات

د. أحمد ياسين القرالة

للزواج في الإسلام مكانة سامية ومرتبة مرموقة، نابعة من كونه الوسيلة الشرعية لإشباع حاجات الإنسان النفسية والجنسية والاجتماعية بطرق صحيحة وآمنة؛ فقال تعالى:" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" وهو الطريق الصحيح لحفظ النسل الذي هو أحد مقاصد التشريع الإسلامي،فقال تعالى:" وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً"، هذا فضلاً عن كونه أداة بناء الأسرة التي هي نواة المجتمع وعماده، فالإسلام لا يعترف بالأسرة إذا لم تكن مبنية على قاعدة الزواج ومستندة إليه.اضافة اعلان
ونظراً لأهمية الزواج وآثاره الخطيرة على الفرد والمجتمع عبر عنه القرآن الكريم بكونه"مِّيثَاقًا غَلِيظًا "، فوضع لها الميثاق الشروط والمواصفات التي تحافظ على بقائه وتحقق له مقاصده.
وقد حصل بين الفقهاء السابقين خلاف في قضية السن المعتبر للزواج حيث يذهب جمهور الفقهاء إلى أنه ليس للزواج سنٌ معين وأنه يصح عقد الزواج للصغير والكبير، استدلالاً بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ستٍّ، بينما ذهب قلة من الفقهاء وعلى رأسهم أبو بكر الأصم وابن شبرمة، إلى أن للزواج سناً معيناً لا ينعقد قبلها، وأن زواج النبي عليه السلام من عائشة حالة استثنائية خاصة لا عموم لها، واستدلوا بقوله تعالى:" وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ" ووجه الاستدلال أن  الآية جعلت بلوغ سن النكاح معياراً لانتهاء الصغر وبداية الرشد، فلو لم يكن للزواج سن معين لما كان لهذه الغاية معنى، فيكون القرآن بذلك قد أحالنا على معيار غير محدد ولا منضبط وهذا غير جائز، هو استدلال في غاية القوة والعمق.
كما أن الزواج في هذا السن لا يفقد الزواج مقاصده فقط بل قد يؤدي إلى نقيض مقصوده فيكثر الطلاق والتفكك الأسري ويزداد التشرد وينتشر الانحراف؛ لأن الزواج في هذا السن لا يجعل الشخص قادرا على الاختيار الصحيح، وهو غير مؤهل لإدارة الأسرة ورعاية الأبناء، كما أنه يدفع بالإنسان في سن مبكرة جداً لتحمل مسؤولية كبيرة وعبء ثقيل ينوء بكاهله، وقد يكون ذلك على حساب تعليمه وتطويره الذاتي.
إن ما ذهبت إليه القوانين العربية من تحديد سن معين للزواج أخذا بقول أبي بكر الأصم وابن شبرمة، لهو إجراء سليم يتفق مع مقاصد الشريعة عامة ومع مقاصد الزواج خاصة؛ لأن تغير الظروف وتبدل الأحوال قد فرض على المشرعين هذا الإجراء، فابن العاشرة هذه الأيام لا يدرك من معاني الحياة شيئاً، وليس مؤهلاً للقيام بأي عمل، فهو عاجز عن إدارة نفسه محجور عليه لذاته، فأنى له أن يكون مسؤولاً عن غيره ففاقد الشيء لا يعطيه.
وعلى فرض أن زواج الصغير والصغيرة أمر جائز ومشروع فهو لا يخرج عن كونه مباحاً لا أكثر، ومن المقرر فقها أن للدولة حق تقييد المباح إذا ما كان في تقييده مصلحة معتبرة شرعاً، وإن تحديد سن للزواج يتفق مع المقاصد الشرعية ويتسق معها، إذ لم يعد مقبولاً أن يكون لكل التصرفات التي يقوم بها الإنسان سن معين ومحدد، بينما يترك أمر الزواج على ما فيه من خطورة دون قيد أو ضابط.
ولا ينبغي أن نتغافل هنا عن تخوف البعض من أن يكون هذا التحديد قد جاء تحت وطأة ضغط المنظمات الدولية والحركات النسوية في العالم، نعم قد يكون هناك شيء من ذلك، ولكن كل ذلك لا يمنعنا أبداً من أن نعالج الأمر بطريقة صحيحة وشرعية تتناسب مع واقعنا وتحفظ لنا مصالحنا ولا تجعل من بعض الاجتهادات التي اقتضتها ظروف وأحوال معينة معيقة لحركتنا معطلة لمصالحنا، أنا أعتقد أن معظم الذين يتخوفون من تحديد سن معين للزواج لا يقبلون أبداً لبناتهم الزواج في هذا السن أو حتى قبل أن تكمل تعليمها الجامعي.
إن ما كان صالحاً في زمن قد لا يكون صالحا في غيره، وإنسان اليوم غير إنسان الماضي، فمن غير الممكن أن نعالج الحاضر بأدوات الماضي؛ لذلك علينا أن ندرس الاجتهادات السابقة وهي لا تخرج عن كونها اجتهادات ونقيسها بمعيار المصلحة التي هي دليل شرعي معتبر، فنأخذ من تلك الاجتهادات وفي مقدمتها ما يتعلق بالزواج والأسرة ما يتناسب مع واقعنا ويعيننا على تجاوز أزماتنا وحل مشكلاتنا.