زيد حمزة وعيسى مدانات.. مثلاً

عيسى مدانات هو المناضل المعروف وأحد مؤسسي وقادة العمل الشيوعي في الأردن، أما زيد حمزة فهو الطبيب ووزير الصحة الشهير والمثقف المثابر حتى اليوم. الأول من مواليد عام 1927 والثاني عام 1932. أطال الله عمريهما.اضافة اعلان
في منتصف القرن الماضي تماماً، كان عيسى مدانات ينهي دراسته للعلوم في الجامعة الأميركية في القاهرة، بينما كان زيد حمزة يبدأ دراسة الطب في جامعة القاهرة. كان اسم مدانات قد برز هناك في أوساط الطلبة كشيوعي وكقيادي طلابي معروف، و أما حمزة فقد التحق بالنشاط الطلابي والسياسي وكان أيضاً قريبا جدا من الشيوعيين.
عاد مدانات إلى الأردن، وبعد أقل من سنتين وجد نفسه معتقلاً في أول حملة اعتقالات جماعية في سجن الجفر، ليبدأ بذلك سيرة كفاحية طويلة مميزة فعلاً، فضلاً عن سيرته الكفاحية في الحياة الشخصية. أما زيد حمزة فيقرر بوضوح كامل مع نفسه أنه سيعود ليعمل في الطب وتطوير الخدمة الصحية العامة بعيدا عن العمل الحزبي.
شكّل مدانات حالة فريدة في مجمل سيرة العمل الحزبي والنضالي وضحى بالكثير، فيما شكّل حمزة أيضاً حالة خاصة في مجال تعميم الطب العام وقاد مع آخرين معركة نشر المراكز الصحية التي وفرت الخدمة للفقراء وخاصة في المناطق النائية، ثم خاض معركته ضد أصحاب النفوذ في القطاع الصحي، وقدم استقالة احتجاجية حادة، وكان خصومه من طبقة عليا من أصحاب النفوذ.
هذه سيرة مختصرة ومكثفة جداً لشخصيتين نادرتين، كل في مجاله.
اليوم، كيف يمكن ان نقرأهما في سياق تاريخ بلدنا؟ ففي لحظة من اللحظات، كانا خصمين، موضوعياً على الأقل.
ولكن قبل محاولة الإجابة على السؤال، دعونا نتذكر أن مشروع مدانات السياسي تعرض لهزيمة، تماما كما تعرض للهزيمة مشروع زيد حمزة التنموي في المجال الذي تخصص به. فلم تستمر الشيوعية لا كمشروع كفاحي ولا كمشروع واقعي، وفي الوقت ذاته جرى ويجري الاعتداء على قطاع الصحة العامة وهناك سعي حثيث لإفشاله.
لكن التاريخ لا يتوقف فقط عند النتائج في لحظة معينة.
إن مدانات قدم نموذجا في كل ما يتصل بمعاني وقيم التضحية ونكران الذات والشجاعة والإخلاص للأفكار والمبادئ... إلخ. وبالمقابل فإن حمزة قدم نموذجه في مجال لا يقل أهمية، أي الصحة. فمن المؤكد أن ألوف الناس كانوا بحاجة ماسة للخدمة التي قدمتها المراكز الصحية التي أسسها ودافع عنها حمزة، وربما أنقذت حياة العشرات منهم بسبب وجودها، كما قدم حمزة نموذجا في نزاهة العمل العام والحفاظ على الدولة ومؤسساتها والدفاع عنها.
كلا الصنفين من الجهد الذي قدمه الرجلان يعد جزءا مكونا مهماً من حياة المجتمع والدولة والناس. إنهما (بالطبع مع شركائهما في باقي المجالات والميادين) ساهما في صنع البلد، واليوم عندما ننظر إلى ما هو إيجابي في تاريخ بلدنا، فإن لكل منهما حضوره الخاص.
الجيل الذي ينتمي إليه هذان الرجلان الكبيران أكثر استيعابا لهذه الخلاصة من الجيل اللاحق. من المؤسف أن المناضل الكبير مدانات في وضع صحي لا يمكنه من التواصل، شافاه الله، ولكني اطلعت على الكثير من أوراقه المتأخرة التي تشير (وفق فهمي لها) إلى إيجابية عالية في التعامل مع حالة البلد وقد انعكست في نوع إسهاماته، فقد واظب على تجديد فكره حتى تفاقم مرضه. بالمقابل لعل زيد حمزة الوحيد اليوم الذي ينادي بأهمية تدريس وتعليم المنهج الماركسي "كمنهج تفكير" في المدارس!
لبلدنا سيرة جديرة بالاهتمام، وغنية بالتفاصيل الجميلة، وفي المرة القادمة، بعون الله، سأكتب عن نموذج تمثله فترة فتوة وشباب الدكتور هاني الخصاونة التي تعكس مقطعاً خاصا من التاريخ السياسي لبلدنا.