سأحكي لكم عن غزة

غزّيون يتظاهرون احتجاجاً على الحصار الإسرائيلي للقطاع - (أرشيفية)
غزّيون يتظاهرون احتجاجاً على الحصار الإسرائيلي للقطاع - (أرشيفية)

ليليان روزنغارتن* - (ذا بالستاين كرونيكل)

ترجمة: علاء الدين أبو زينةاضافة اعلان

"إلى الذين استشهدوا من أجل أرض البرتقال الحزين".
تعيش غزة في قفص، في سجن في الهواء الطلق، ويتم الإبقاء عليها معزولة عن العالم كل الوقت. أشجار الحمضيات فيها اقتُلعت، ولم تعد تصدر الزهور، ولا الخضار والفواكه والزيتون، التي كانت تشكل في السابق تجارة تصدير مزدهرة.
ومنذ العام 2000، دمر الجيش الإسرائيلي 114.000 شجرة زيتون، ثم تم تدمير الباقي خلال حرب 2008-9، التي اقتلعت الكثير منها بواسطة الفوسفور الأبيض وغيره من المواد الكيميائية. وقد أصبحت الزراعة صعبة، بل ومستحيلة في بعض المناطق.
يبدو الكثير من أجزاء غزة أشبه بمنطقة حرب، حيث تنتشر ثقوب الرصاص على واجهات المباني. ولا توجد في غزة مضخات لمياه الصرف الصحي، وهي التي يعاد قصفها كلما بُنيت. ولذلك، تعج مياه البحر المتوسط بمياه المجاري الخام، في حين تفضي مراقبة البحرية الإسرائيلية المفروضة على مياه البحر المحظورة لمسافة ثلاثة كيلومترات إلى تدمير ما كان ذات مرة صناعة صيد مزدهرة، وقد أصبحت المياه الآن آسنة بفعل مياه الصرف الصحي والصيد الجائر.
هنا واحدة من أكثر قصص الحرب قتامة، حيث الرعب الذي لا يمكن تصوره؛ حيث تعمل الأنفاق، هذه المتاهات الممتدة لأميال، على تخفيف وطأة المعاناة من خلال البضائع التي يتم جلبها من مصر. والأنفاق أماكن خطيرة لأنها تتعرض دائماً للقصف بالصواريخ والقذائف. ويغامر العديد من الشبان الشجعان الذين يعملون في الأنفاق بحياتهم يومياً من أجل جلب البضائع التي تمس الحاجة إليها في غزة. وتأتي المواد الضرورية لديمومة الحياة من خلال الأنفاق. ويتم ضخ زيت الديزل والبنزين عبر الأنفاق بثلث السعر الذي يتقاضاه الإسرائيليون. وبالإضافة إلى ذلك، تجد مواد البناء والإسمنت والأدوية والضمادات، والإسعافات الأولية، وحتى السيارات والغسالات طريقها إلى غزة عبر الأنفاق. أما المواد التي يتم إرسالها من ميناء أشدود الإسرائيلي، فيتوجب عليها الانتظار شهورا قبل أن يتم تفتيشها، وغالبا ما لا تصل إلى غزة أبداً.
الكهرباء في غزة شحيحة، ويمكن أن تنطفئ المولدات الكهربائية الاحتياطية المستعملة في المستشفيات بمعدل 12 مرة في اليوم. وكثيراً ما تتوقف هذه المولدات أثناء إجراء العمليات الجراحية. ويشكل تصليح المولدات والمعدات بشكل عام مشكلة صعبة، حيث تستغرق قطع الغيار شهوراً حتى تصل من الدول التي تبرعت بالمولدات. وينطبق الشيء نفسه على معدات التصوير الجديدة التي غالبا ما تقف عاطلة وبلا معنى عندما تكون في حاجة لإصلاح صغير. وما إن يتعطل شيء حتى يترتب الانتظار لأكثر من سنة في كثير من الأحيان حتى تصل قطع الغيار من المنظمات غير الحكومية في الدول المشاركة في دعم الفلسطينيين. وللأسف (وبالقدر الذي أعرفه)، فإن الولايات المتحدة لم تعد تسهم، كما أوقف الكونغرس الأميركي مؤخراً استخدام أموال المنظمات غير الحكومية في التنمية الزراعية، وهو ما يشكل مأساة للفلسطينيين في قطاع غزة الذي يُطعم سكانه بنفسه.
ثمة الكثيرون من المرضى ممن لا يتلقون العلاج المتقدم. وهناك 40 % من الأدوية اللازمة للعلاج الضروري غير متوفرة. ولا وجود لعقاقير العلاج الكيميائي لأنها مكلفة للغاية. وليس هناك وجود أيضاً للقفازات، والإبر والخيوط الجراحية والمضادات الحيوية، ومعظم الضروريات الأساسية في غالب الأحيان. ويتم التبرع ببعض بالكراسي المتحركة من جانب البلدان المشاركة، وهي ضرورية للكثير من الشبان الذين نسفت أطرافهم السفلية. وقيل لي إن إسرائيل أرسلت كرسياً متحركاً ليس صالحاً للاستعمال، لأن الكثير من أجزائه لم تكن موجودة. كيف يمكن هذا؟ وقد تم قصف المستشفيات وأعيد بناؤها. ولولا الأنفاق، لكان هناك شلل تام في جهود إعادة البناء.
الأكثر مرضاً فقط ممن يحتاجون إلى معالجة متقدمة؛ المرضى الأكثر هشاشة فقط هم الذين يتم إرسالهم إلى المشافي الإسرائيلية. والرحلة إلى هناك طويلة وشاقة، تتخلها العديد من نقاط التفتيش. والكثيرون لا يتمكنون من النجاة خلالها. ويجب أن يذهب الأطفال من غير صحبة الآباء والأمهات الذين لا يُمنَحون الإذن لمرافقة أبنائهم والتخفيف عنهم. والآن، أصبح أكثر من الأسهل كثيراً إرسال المرضى عبر معبر رفح إلى القاهرة لتلقي العلاج، وهي أيضاً عملية شاقة، لكنها تبقى مفضلة لأن القيود الحدودية توفر إمكانية أكبر للوصول إلى المستشفيات المصرية لتلقي العلاج. لكن الأمر يبقى مع ذلك صعباً وطويلاً. وقد رأيت حشود الناس الذين ينتظرون لساعات على الحدود من أجل الحصول على جوازات سفرهم والموافقة على وثائقهم، في إجراء ممل ومرهق، حتى بالنسبة للأصحاء جسدياً.
مستشفى الشفاء هو المشفى الرئيسي الأكبر وقطاع غزة. وهو يحتوي على 700 سرير ويستقبل 1200 مريض يومياً. ولم يكن أثر الحصار الإسرائيلي على الصحة أقل من مدمر. وأنا معجبة جداً بالتزام كادر العاملين في المستشفى الذين يعتنون بالمرضى والجرحى بالمعدات المحدودة، حيث يعمل الرجال والنساء الفلسطينيون جنباً إلى جنب.
أنا معجبة أيضاً بجمال الفلسطينيين وسعيهم الدؤوب للكرامة والحرية. وأنا معجبة بالآباء الذين يتعهدون أطفالهم المرضى بالحب، بينما تنحفر المأساة عميقاً على تقاطيع وجوههم. وقد ترك الكثير مما رأيته وسمعته في غزة حفرة عميقة سوداء في وعيي لأنني أدرك أن الجرائم التي يرتكبها الصهاينة في إسرائيل بتواطؤ كامل من الولايات المتحدة، هي واحدة من أكبر الجرائم ضد مجموعة من السكان الذين يجري اعتبارهم أقل من بشر. وتتم شيطنة الفلسطينيين، والغض من إنسانيتهم، في محاولة لطمس التاريخ وكرامتهم وحقهم في العيش بأمن وسلام. ومن وجهة نظري، فإن هذا شيء لا يقل عن الفصل الأخير من المحرقة اليهودية، وهو مأساة لا تغتفر مطلقاً.
سوف أواصل الكتابة عن أرض البرتقال الحزين، عن الأرض التي تم انتزاع أشجارها من الأرض وتصديرها إلى إسرائيل لسرقة محاصيلها وريعها. كل شيء يجري من أجل الربح والجشع ويتوقف الناس عن أن يكونوا بشراً.
أود أن أحكي لكم عن اليورانيوم المنضب والفوسفور الأبيض التي وُجدت بعد الحرب، بعد ثلاثة أسابيع من القصف ليلاً ونهاراً. لقد رأيت المعلمين يعملون في مشروع "أنقذوا أطفالنا" مع اثنين من الفتيان بعمر ثماني سنوات، واللذين لا يستطيعان الكلام حتى الآن بعد عملية الرصاص المصبوب. وحتى يومنا هذا، ما يزال بوسع المرء أن يعثر على آثار الاستخدام المستمر للمواد الكيميائية في التراب وفي أجساد الأطفال الذين يولدون قبل الأوان، مصابين بالسرطان والتشوهات. نعم، لقد تم عزل 33 مادة من المواد الكيميائية السامة الإضافية التي كانت تتغير مع كل جولة من القصف. وفي حال كنت لا تعرف هذا، فإن أكثر من 55 % من سكان غزة هم تحت سن 18 عاماً. وأنا أرتجف كلما فكرت بما يمكن أن يفضي إليه التعامل المستمر بوحشية مع هذا الجيل الشاب في السنوات المقبلة. ومع ذلك، ما يزال الفلسطينيون يحاولون، بمساعدة من المنظمات غير الحكومية، الحفاظ على حياة الأطفال الفلسطينيين المزدحمين في مخيمات اللاجئين، والذين يمتلكون أجمل الوجوه. ينبغي أن يكون هناك أمل للأطفال الذين هرعوا إلي وهم يرفعون شارات السلام، لنهتف معاً: تحيا فلسطين.
لقد بدأت عملي للتو فقط. وينبغي لي أن أتعلق بأهداب الأمل أيضاً. وعلى العالم أن يستمع، ويقاوم.

*لاجئة من ألمانيا النازية تعتنق البوذية، وهي شاعرة وكاتبة وناشطة سلمية.
*نشرت هذه المقالة تحت عنوان: I Wish to Tell You about Gaza