"سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله"

مصلون فلسطينيون يؤدون صلاتهم في المسجد الأقصى في القدس -(أرشيفية)
مصلون فلسطينيون يؤدون صلاتهم في المسجد الأقصى في القدس -(أرشيفية)

د. محمد المجالي

بعيدا عن الجدل والخلاف في توقيت حادثة الإسراء والمعراج، ولكننا معنيون بالحدث نفسه، وما كان فيه، ومقاصده التي ينبغي الوقوف عندها ومراجعتها، فليس الأمر متعلقا باحتفالية سنوية لذكراهما، بل العبرة، وما يمكن أن نوظفه في حياتنا من وحي هاتين المناسبتين.اضافة اعلان
يتحدث الناس عادة عن الإسراء والمعراج ومعناهما، وعن البراق ووصفه، وعن إمامة النبي محمد بالأنبياء جميعا عليهم الصلاة والسلام، وهي إشارة إلى ختم الرسائل السماوية وفضله عليهم جميعا. ويتحدثون عن المعراج وما رآه صلى الله عليه وسلم في كل سماء، وكيف انتهى به الأمر عند سدرة المنتهى، والكلام الذي جرى بينه وبين الله تعالى وتقدّس، وفرضية الصلاة مباشرة، وفي السماء، وهذا دليل ميزتها وعظم شأنها، وأنه عليه الصلاة والسلام لم ير ربه بعينه، رغم هذه النقلة الهائلة من عالم الأرض إلى عالم السماء، فقد اقتضى أمره وحكمته أن لا يراه أحد في الدنيا. أما الأمور الأخرى التي رآها صلى الله عليه وسلم من شأن الجنة والنار ونماذج من أهلهما فلليقين بأن الحساب حق، والجنة والنار والميزان والصراط كل ذلك حق.
وأقف هنا في ذكرى هذه المناسبة لأتحدث عن الآيات في سياق حادثة الإسراء، من سورة الإسراء، لأسجل أهم الملحوظات:
أولا: افتتحت السورة بالتسبيح الدال على التنزيه والتعظيم، وفي هذا رد غير مباشر على الذين يقولون إن الرحلة كانت بالروح فقط، أو مناما ورؤيا! فالله تعالى لا يعجزه شيء، وإذا أراد شيئا فيقول له: كن، فيكون، ولا علاقة لقوانين الطبيعة كلها إن كانت مشيئته تريد شيئا، فكما أنه أوجد آدم عليه السلام من تراب، وخلق منه زوجه حواء، وأوجد عيسى عليه السلام من غير أب، ومنع النار من أن تحرق إبراهيم عليه السلام، وضرب على أهل الكهف نوما استغرق ثلاثمائة وتسع سنين، وكما هو الأمر في كثير من الظواهر العجيبة التي تمت، سواء معجزات أو كرامات، فلا يعجزه سبحانه أن يسري بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن ثم إلى العروج به إلى السماوات العلا، ولا نسأل عن جاذبية وأكسجين وسرعة وصول، ما دام الأمر متعلقا بالخالق المريد، سبحانه.
ثانيا: أتبع الله آية الإسراء بالحديث عن إيتاء موسى الكتاب الذي جعله هدى لبني إسرائيل، أن لا يتخذوا من دونه وكيلا، ويذكرهم بنوح عليه السلام الذي كان عبدا شكورا، فكونوا أنتم عبادا شاكرين، لا متمردين طغاة.
ثالثا: بعد ذلك كان الحديث عن إفساديْ بني إسرائيل في الأرض، وعلوهم الكبير فيها، والحديث عن كل إفساد منهما، ففي الأول يرسل الله تعالى عبادا له أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار، وهو وعد حاصل لا محالة، يحدث فيه من التنكيل بهم ما هو معلوم من لفظ (جاسوا خلال الديار)، وأنهم قوم أولو بأس شديد. ثم يعيد الله الكرة لبني إسرائيل من أجل إفسادهم الثاني، وهي سنة ثابتة في مداولة الأيام، وهنا يكون الاستدراج لبني إسرائيل بأن يمدهم الله بأموال وبنين، ويجعلهم أكثر نفيرا، ونلحظ كلمة (نفيرا) وليس (نفرا)، فالحديث عن قدرة عسكرية لا عن عدد، وهو ما نلحظه الآن من قدرة عسكرية، ومن تكاتف عدد كبير من الدول معهم.
رابعا: في هذا دليل أن القضاء على الإفساد الثاني لم يتم بعد، ولعله إفسادهم الثاني هو ما عشناه وعاشته البشرية في زمن ماض قريب، وما نعيشه الآن، وهنا يتوعدهم الله تعالى: "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيرا"، وعبر الله تعالى بالثاني بأنه (الآخرة)، وفي هذا إشارة إلى أنهما إفسادان ليس إلا، ولا يتعارض هذا مع قوله بعد تلك الآيات: "عسى ربكم أن يرحمكم، وإن عدتم عدنا.."، فهو تهديد لهم وتذكير بأن ما حدث إنما هو بطغيانهم وعتوّهم وإفسادهم.
خامسا: لنا أن نتخيل لماذا ذكر الله تعالى كلمة الفساد في الأرض، سواء كانت الأرض هنا المذكورة بين مكة والقدس وما حولهما، أو الأرض كل الأرض، وهو ما يشهد به الواقع الآن في إفساد اليهود الأرض كلها، عن طريق المال والإعلام واللوبي الصهيوني في كثير من الدول القوية، ولعل بروتوكولات حكماء صهيون شاهدة على هذا بشكل واضح، فمعظم ما ذكروه من نقاط لينشروها في العالم قد تم، من حروب وثورات وفساد أخلاق ونشر إلحاد وتدمير شعوب، وعلى الأخص عالمنا الإسلامي الذي عاش ويعيش حالة من الشتات وشلل الإرادة والانغماس في الرذيلة والانقسام والعصبيات.
سادسا: ومع ذلك فقد بين الله تعالى انتهاء هذين الفسادين، بعباد أولي بأس شديد، وقد دخلوا المسجد أولا، وسيدخلوه مرة أخرى فاتحين متبّرين ما علا به هؤلاء، والتاريخ يشهد أن اليهود ما علوا في زمانهم كما هو شأنهم منذ فترة بسيطة، حيث يتحكمون في القرار الرسمي العالمي، ولهم النفوذ المالي والإعلامي، ومن هنا فلا شك في أن ما نحياه هو الإفساد الثاني، وقد طال زمنه، لكنه لن يدوم، فلا يمكن للباطل أن يُعمّر طويلا، وهذه الأرض المباركة لن يغيب عطاؤها، ولن يتخلف وعد الله تعالى بنصر المسلمين يوما ما.
سابعا: أردف الله تعالى ذكر الإفسادين والقضاء عليهما بالحديث عن القرآن: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.."، وهي إشارة واضحة أن الذين ينهون إفساد بني إسرائيل هم أهل القرآن، الذين اهتدوا بالقرآن، وساروا على تعاليمه، فالباطل لا يُهزم بباطل، بل لا بد من حق قوي أتباعه كذلك أقوياء في فكرهم وعقيدتهم وعزيمتهم، وهذا لن يطول إن شاء الله تعالى، ومرة أخرى فالله هو متولي هذه الأمور، وأنعم به من مرشد ومبشر.