سطوة النمط

السلوكيات الاجتماعية في جلها يبدو أنها تخضع لحكم العادة والتواتر والتنميط دون مراجعة أو قياس لمدى معقوليتها أو منطقيتها، حيث تصل إلى حد من التغلغل تصبح معه من الثوابت التي يندر التفكير في زحزحتها أو إحداث تغيير جوهري فيها.اضافة اعلان
القصة التالية ليست فنتازيا من نسج الخيال، بل هي حدثت بحذافيرها وتعكس مدى سيطرة النمط والمعتقد حول قضايا بعينها على الشخص الذي يسلم زمام أمره لما تراكم لديه من صور وتصورات لا يمت بعضها للواقع بصلة.
استوقفنا موظف تفتيش في المطار أثناء مغادرتي لبيروت مع مديرتي الإنجليزية منذ حوالي 13 سنة، صمت قليلاً… تنهد… توجه بناظريه إلى مرافقتي ضارباً عني صفحاً فمثلي من المكفوفين لا يمكن التحدث إليهم مباشرةً لأنهم ربما في عرفه يسمعون بعينيهم وليس بأذنيهم، المهم، سألها بنبرة صوت يغلبها النعاس والضجر من روتين العمل: “مسافر معك؟”، طلبت مني أن أفسر ما يقول، تغلبت على إحساس شبكة البينج بونج الذي يعتريني في مثل هذه المواقف حيث يتقاذف المتحدثون الأسئلة والأجوبة التي تخصني من فوق رأسي، فترجمت لها سؤاله وعدت إليه بالجواب: “تقول لك نعم، أنا مسافر معها، وتسألك، لماذا توجه خطابك لها وليس لي؟”.
علت وجهي ابتسامة عريضة منتظراً منه ضحكة مذيلة باعتذار، إلا أنه استأنف سائلا: “هممم… طيب شو هاي اللي بإيده؟”، ترجمت لها سؤاله فوجدتها قد افترشت الأرض وانفجرت بالضحك وهي تردد عبارات من مثيل: “لا أصدق ذلك… عجيب…. هل يمزح….”. ببرود الأعصاب ذاته الذي أكسبتني إياه معاركة النمط مع الناس قلت له: “تقول لك، هذه عصا بيضاء أتوكؤ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى”.
لم يسأل الرجل المنهمك بإشباع فضوله حول العصا المطوية عن سر ضحك السيدة وافتراشها الأرض، فعاود سؤالها: “طيب خليه يعطيني إياها عشان أفحصها”، ومن فوري أخبرتها أنه يطلب العصا ودون انتظار أي ردة فعل من جانبها ناولته إياها قائلا له: “تقول لك لا مانع تفضل افحصها”. فركها بين يديه… قلّبها قليلا… فردها ثم طواها وأعادها لي وهو يطلب من مرافقتي: “احكيله يشلح الجاكيت عشان أفتشه”. جلست القرفصاء لأقترب منها وأحاول إنقاذها من نوبة الضحك التي انتابتها وقلت لها بخجل: “يطلب الآن الأصعب… يريدني أن أخلع ملابسي…”. ضربت على الأرض براحتيها، انتصبت واقفاً وأعطيته “الجاكيت” قائلا له: “بتقول لك اتفضل فتش”. دس يديه في الجيوب وأخذ عرقي يتصبب حينما تخيلت أن يده سوف تلامس بعض المناديل الورقية المتيبسة التي أخذت مكانها في زوايا بعض جيوبي، لم يبدُ عليه أي اشمئزاز أو امتعاض وهو يعيدها إلي مصوباً نظره طبعاً لمرافقتي وهو يقول لها: “شكراً لك…. بس عندي سؤال… هو ماله؟ نايم؟”. كظمت غيظي وتحاملت على نفسي وقلت: “خربانة خربانة”، فناولتها القاضية وترجمت لها سؤاله، فلم تتمكن من الكلام تحت وطأة تسارع شهيقها وزفيرها من شدة الضحك.
قررت إيقاف هذه الملهاة فربضت على كتفه وبنبرة المتسائل المستنكر قلت له: “كيف يقبل عقلك أن تحدث معجزة في المطار فيتحدث رجل نائم بلغتين ويتفاعل معك ويناولك أغراضه ثم يأخذها منك وهو في سباتٍ عميق، ولم يدر في خلدك ولو للحظة أنه ربما يكون كفيفا!”. صمت وانتابه شيء من الوجل وكتم اندهاشه من قدرتي على التحدث مباشرةً إليه دون وسيط ولعله حالما تركناه خرَّ لله ساجداً لهول ما رأى.
هذه الحادثة أكدت لي قسوة وسطوة الصور والقوالب النمطية التي تحكمنا ومشقة الطريق لتحويلها وتغييرها، فحتى لو كان لديك تشريعات المدينة الفاضلة وأموال لا تأكلها النيران، فلن يحقق ذلك التغيير المنشود ما دامت العقول لا تلين والأفكار لا تتحرر من جليدها المتيبس. لذلك فالإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يبدأ من نقطة التماهي مع السياق والعادات والتقاليد والممارسات المتواترة؛ ما هو إلا تكريس وإعادة إنتاج لمنظومة الخلل المراد إصلاحها، لينتهي بنا المطاف أبعد من المثل الشعبي النمطي: “كأنك يابو زيد ما غزيت”، لواقع: “يا ريت أبو زيد لم يغزُ أصلا”، فلا فائدة ترجى من إصلاح سياق تغلبت فيه العادات على الإبداع وانهزم فيه المنطق في معركة خاسرة ومحسومة أمام سطوة النمط وغلبة العبط.