سقوط اليسار

في نهاية 1793، اندفع قادة الثورة الفرنسية لتحقيق مبدأ الاستقامة المشتق من فلسفة مونتسكيو في كتابه (روح القانون) حيث الاستقامة تعني (سمو القانون و الوطن)، وعلى هذا المبدأ منح المنادون لحرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان لأنفسهم شرعية تصفية خصومهم من أعداء ثورتهم، وبالفعل وخلال ستة أشهر استطاعوا أن يخرجوا بحصيلة قتلى ارتقت لدرجة أن يتم وصم هذه المرحلة بالتاريخ الفرنسي تحت وسم (عهد الإرهاب)، ودون أن يرف لهم جفن جعلوا كلمات رفيقهم ومشكاتهم فولتير التي حملوها وألهبوا الجماهير بها لتعبئتهم من أجل الثورة تداس تحت أرجلهم، فكانت عبارة مثل: "نحن جميعًا غارقون في الضعف والخطأ، دعونا نغفر لبعضنا بعضا تصرفاتنا السيئة. هذا هو أول قانون للطبيعة، كل شخص يضطهد شخصًا آخر لأنه لا يملك الرأي نفسه هو وحش". كانت هذه أولى الكلمات التي وضعها (ماكسيمليان روبسبير) تحت المقصلة قبل أن تخضع رقبته كذلك بنهاية هذا العصر المرعب للعقوبة ذاتها وعلىاضافة اعلان
يد رفاق الحرية.
لقد كان هؤلاء الثوار أساس دسترة فكرة اليسار بالتاريخ؛ حيث شكلوا ما يعرف بجمعية أصدقاء الدستور في حينه التي عرفت فيما بعد بنادي العاقبة، وهم الكتلة الأكثر شبكية إبان الثورة الفرنسية، ومن خلال جلوسهم الى يسار الملك سمي اليسار السياسي في العالم اليوم تبعا لخيارهم، فوسم كل من يطالب بمطالبهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية باليسار،
أخضع مفهوم العمل تحت هذا المسار لقوالب مختلفة وإن جمعها الرغبة العارمة في التغيير؛ ففي الولايات المتحدة كان للإنجليزي جون لوك من خلاله كتابة (رسالتان في الحكم) الدور الأبرز بنحت روح الليبرالية بركنيها الحرية والمساواة ومنها اشتق الليبرال الاجتماعي والديمقراطي الاشتراكي، من جهة أخرى اعتبر المطالب بالديمقراطية غير الخاضعة لمركزية القيادة الشيوعية (الكومنترن) يساريا، لذلك قال (كارل بوبر): علينا اعتبار الشيوعية حالة خاصة يجب تحليلها بمعزل عن اليسار السياسي، وهو مدخل اتباع غرامشي ذاته في 1977 عندما أعلنوا انشقاقهم تحت راية (الشيوعية الأوروبية) معلنين دعوتهم إلى التعاون مع الليبراليين والديمقراطيين.
سبق ذلك ظهور تيار ملتهب تم تصنيفه بجدارة ضمن فئة أقصى اليسار؛ حيث تميز اليسار الراديكالي الصاعد في 1964 باختياره قضايا اجتماعية وحقوقية، لتتماشى هذه الحركات بخط مواز مع حالة التململ الغربي بسبب مركزية المرجعية ومركزها موسكو قبل إعلان الانشقاق الكبير في أوروبا الداعي الى انتقال الاشتراكية من الشمولية الى نظام الحرية والسلام والتعددية، ليتبع هذا الانشقاق سقوط جدار برلين وما يرمز له من تهاوي الأسوار الفكرية حيث الانهيار العظيم للاتحاد السوفياتي ونشوء النظام العالمي الجديد.
نظام عالمي اختار اليسار الجديد فيه قضايا العولمة وحقوق الإنسان وحقوق الحيوان وحماية البيئة وحرية الرأي وحقوق المثليين ومعارضة رهاب المثلية كمهمات يتكفل بالدفاع عنها في معارك وجبهات مختلفة إعلامية وبرلمانية ومؤسسات مجتمع مدني، إنها قضايا تتوحد مع رؤية الليبراليين القائمة على الحرية والمساواة فتشكلت مؤسسات اليسار الجديد ضمن منظمات كحركات الخضر، وجمعيات حقوق الإنسان، وكثير من منظمات المجتمع المدني، التي تقوم على التمويل من دول رأسمالية أقل ما تنعت بالمتوحشة في أدبيات اليسار الكلاسيكي.
اليوم، أصبح اليسار جزءا من الحزب الديمقراطي الأميركي، وهي معضلة عززت من صعود اليمين المتطرف بالمقابل، ولعل أخطر ما حمله هذا التيار الجديد القديم للعالم بعد أن كان له الدور الأهم في الارتقاء بالبشرية ضمن حركات الحقوق العمالية بعد الثورة الصناعية وفي حقوق الشعوب في الثورة الفرنسية وحركات المساواة خلال القرن العشرين، أن أصبح اليوم مجرد كتلة فوضوية أعمق مشاريعها اللاسلطوية وصناعة الفوضى!