"سلبي كتير"

تخرج بعض المظاهرات في فلسطين نصرة للسوريين في وجه المذابح، وبعضها رفضاً للمفاوضات، وأخرى ضد الغلاء والأوضاع الاقتصادية؛ وتحدث كلها في مناطق محدودة ومحصورة بما يشبه جيوبا فلسطينية. أمّا المظاهرات المناهضة للاحتلال فمستمرة بشكل عام، ولكن ليست كما كانت في السبعينيات والثمانينيات، عندما كانت تنطلق من المسجد أو الجامعة إلى القدس وغيرها وفي كل مكان؛ فالحركة الآن محدودة وممنوعة، وللمظاهرات أغراض محددة. تخرج المظاهرة ضد الجدار كما في قرى "بدرس" و"بلعين" و"نعلين" وغيرها، أو ضد حاجز كما بشأن "قلنديا"، حيث تضيع الساعات هناك في الانتظار. ولنتأمل حملةً ستنطلق في الخليل قريبا، تسمى "الحملة الدولية الثالثة لفتح شارع الشهدا"، من 20 إلى 25 الشهر الحالي. إذن، هي مظاهرات ضد جدار، وضد حاجز، واجتماع عالمي لمجرد فتح شارع! وهناك كذلك الاحتجاجات ضد قانون إسرائيلي مقترح لمنع الأذان في المساجد!اضافة اعلان
في كتبه عن حروب اللغة في الشرق الأوسط، يذكر ياسر سليمان عبارات تسود في الشارع الفلسطيني، مثل كافتيريا تسمى "خبر عاجل"، وعبارة "شعره طالع مظاهرة"، وتطلق على الشاب صاحب الشعر الفوضوي. هذه سخرية مُرّة من الضيق والظروف. وسؤالي: ماذا لو أجرينا دراسة على الأطفال الذين ولدوا على الحواجز وكيف ارتبطت الذكرى بحياتهم؛ هل هناك طفلة اسمها "حاجز"، أو يلقبونها بـ "بنت الحاجز"؟! باتت حالات الحصار اليومي على أنفاس الناس وحركتهم، ونقص الحاجات الأساسية، صار جزءا من الحياة اليومية للفلسطيني.
في لبنان، حيث يُمنع الفلسطيني من ممارسة 72 مهنة، وقعت هذا الأسبوع حادثة "بسيطة" جديدة، فقد بث تلفزيون MTV مقطعا لنحو دقيقة، أثار استياء ناشطين كثر وتناولته الصحافة. ويقوم المقطع المصوّر في كرم زيتون، على ترديد مجموعة شباب جملا تبدأ بعبارة "كتير سلبي"، ومحورها موضوع منح الفلسطيني إمكانية التملك، أو العمل، أو غيره، وبأنه "كتير سلبي" ألاّ يحمل هَمّ الفلسطينيين إلا اللبنانيون، في حين لا تهتم الدول العربية الأخرى! فالفلسطيني في لبنان، وعلاوة على أنّه يعيش بلا عمل أو إمكانية تملك مسكن أو... إلخ، عليه أن يشعر أنّه سبّب مشاكلَ للبنانيين. وبالمناسبة، هناك ناشطون يسعون في لبنان لإقناع الفلسطينيين بأهمية التعليم لأنّ نسب التسرب المدرسي عالية جدا، على اعتبار أن لا عمل ينتظرهم وبالتالي لماذا التعليم؟! ففي لبنان لا يُسمح للفلسطيني حتى بدخول ملعب كرة قدم ليلعب.
في الأردن، لدى المواطن من أصول فلسطينية هواجس تتعلق بسحب الجنسية، أو على الأقل هاجس المراجعات المطلوبة لتفادي ذلك. كما نسمع عن شخصيات وأحزاب ناشئة تصر على أنّ عشرات الآلاف من الفلسطينيين تم تجنيسهم في الأردن في السنوات الأخيرة، وأنّ هذا جزءٌ من مؤامرة الوطن البديل، ومن معاناة الأردن الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، وهو لا يعرف أحدا ممن تم تجنيسهم، ويسأل أين هم؟ ويسأل هل أنا مشكلة على هذا النحو، وبلا فائدة؟! ثم تأتي أنباء عن استثناء الأردن من انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، شاملا الجميع، من هو مواطن أردني ومن ليس كذلك، من أمثال أبناء قطاع غزة.
وفي سورية، يُتهم الفلسطيني من قبل النظام بأنّه مصدر للمؤامرة والسلاح. ويُنقل في العراق من مخيم إلى آخر، ويصبح هدفا للعنف الطائفي. ثمّ يرحل إلى البرازيل بلا تعليم، أو عمل، أو علاج، أو سفارة توليه الرعاية الكافية. وما يزال في مروره من الأراضي المصرية وموانئها إلى غزة، الكثير من الصعوبات.
لا ينكر الفلسطيني أنّ لجوءه قد طال وزاد عن حده، وأنّه ضيف ثقيل، ويتمنى لو يعود عاجلا وليس آجلا، وأن تنتهي قضيته. وهو يعرف أنّ مرور الزمن يعني زيادة معاناته داخل وطنه وخارجه، على أنّ تزايد التضييق في المساحات التي يسمح له الحراك فيها، واضطراره ليناضل الآن ضد جدار، وحاجز، ولفتح شارع، ولأن يُقسم كل يوم أنّه لا يريد التوطين أو وطناً بديلاً في أي مكان، هو نوع من التضييق النفسي، والمادي، الذي يؤدي إلى الموت كمدا، ويؤدي بالدماغ إلى السكتة، لا إلى الخروج في مظاهرة، وحسب.

[email protected]