سليمان الموسى: في سِفر المودات تكمن التفاصيل

سليمان الموسى: في سِفر المودات تكمن التفاصيل
سليمان الموسى: في سِفر المودات تكمن التفاصيل

 د. مهند مبيضين

كان الزمان استقلاليا عربيا، يوم ولد سليمان الموسى في شهر حزيران من عام 1919م، آنذاك كانت حكومة فيصل بن الحسين في دمشق ترسي ملامح الدولة العربية الحديثة، وكانت المنطقة تنتظر أزمنة الشهادة لتكون رحلة الموسى الأولى، وهو ابن شهور عشرة.

اضافة اعلان

تقول السيرة أن أمه حملته على اكفها وهي تسابق الزمن راكضة من قرية الرفيد إلى قرية كفرسوم عبر واد وعر لتودع مع أهل المنطقة جثمان الشهيد كايد المفلح العبيدات.. تلك كانت بداية الأسفار التي امتدت عبر عمر من العمل دون كلل قضاه الراحل باحثا عن الحقائق التاريخية مشافهة أو من دور الوثائق.

أول من أمس تم تأبين سليمان الموسى، والأجيال التي شاركت او شهدت التأبين كانت تحمل عنه صورة ثابتة لم يعتريها تبدل كبير على مدى عقود: مؤرخ حيوي الحضور، مزج بين الانفتاح العفوي على الآخرين والدقة في السلوك المرح العلني المُعدل من حدة وقار السمعة العلمية التي تثقل عادة كاهل المؤرخين، كان وسيظل واحدا من الذين كرسوا الجهد الكبير لبناء وتأسيس سجل التاريخ الوطني المتصل مع فضاء العروبة وحركة التحرر العربي.

وثيقة تاريخية للموسى عن الشريف حسن بن علي

تحتمل طقوس التأبين عادة الحديث عن المزامنات مع الراحل سليمان الموسى فإذا بها تشفُ عن تاريخ حي، وذاكرة مدهشة بيومياتها وتفاصيلها على امتداد تسعة عقود شهد فيها الراحل حركة التحرر العربي ومعركة البناء في هذا الوطن، وكان دائم العمل دون نسيان يسجل التواريخ ويوثق السير ويدخل معركة الردود على صفحات أهم الجرائد العربية والعالمية مدافعا عن تاريخ الأردن.

كأن الذاكرة التي يحلو لسليمان الموسى أن يستحضرها دوما أبعد ما تكون عن شخصه واقرب ما تكون للوطن ورجالاته ومفرداته الغنية بالتضحيات.

صفته المركزية كمؤرخ والتي أدار حولها بلباقة المزايا الأخرى في شخصية لم ينفك يؤكدها الموسى ويعيد تأكيدها كتابةً وشفاهةً ويسحبها على كل الحوادث، إلا أن أحبها إليه كانت التي يلتبس بها الشاهد بالراوي والتي استقر على مزاولتها فظل مؤرخا فطنا، يذكرنا بجيل من رواد الصناعة التاريخية العربية أمثال نقولا زيادة وحمد الجاسر وصالح العلي رحمهم الله جميعاً.

يملك سليمان الموسى في كتاباته موقفا وشرطا أخلاقيا يقوم علىتقديم التاريخ كما هو لا كما نريد، مع استخدام لمجموع الذاكرات الصادقة معبرا عن موقف فكري يقوم على أن الفردي هو إحدى مزايا المُكوِّن الاجتماعي السياسي المؤرَّخ له. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الشاهد سليمان الموسى يتكئ على ذاكرة برية نادرة لا تشيخ فيها التواريخ. ويستخدم لغة مبسطة دون ان يكون ذلك على حساب المعنى فمفرداته جزلة ولغته واسعة المفردات.

يقول الموسى في سيرته: "في مؤلفاتي أجد نفسي مدينا لروح المثابرة، كانوا يقولون قديما أدركَتْه حرفة الأدب، هذا ينطبق عليَّ منذ الصغر، سِرتُ على طريق الحرفة...الخ"، ويمضي الموسى قائلا في سيرته التي حملت عنوان "ثمانون": "لا أطمح إلى تصوير المجتمع والحياة السياسية في فترة حياتي إلا بقدر ما يأتي بصورة عابرة وعفوية". 

إذاً سيرة الموسى الذاتية لا يستأثر فيها الذاتي بقدر ما يحيا فيها المؤرخ الجمعي، فهي تغري يإحداث مقاربة بين ما دونه وما تجاوزه او ما سكت عنه. 

الرفيدي البسيط الذي ورث عن أبيه سلة من أعواد القصب مليئة بكتب ذات صبغة أدبية، مثل: كليلة ودمنة والتغريبة الهلالية ومجموعة قصص بعنوان قمر السكر، زرعت في وعي الراحل روحا أدبية واثبة وميلا إلى التاريخ البعيد عن الفلسفات والأيديولوجيات الكبرى، فقد كتب التاريخ دون أن يضع في ذهنه منهجا يحكمه أو فلسفة أو تصورا مسبقا. كان غاية في البساطة والدقة معاً، بعيداً عن التكلف في الصناعة التاريخية، فهو يقول: "أسلوبي في الكتابة سهل واضح لأنني في طبيعتي سهل لا أميل للتعقيد ..الخ".

كثيرون هم الذين عرفوا الفقيد او زامنوه في رحلة العطاء الكبير، لكن في سِفر المودات ملامح قد تغيب دون قصد، قد يمنحُها الخَفرُ حماية وحرصاً في درء الإفصاح عنها بالكلام فتظل اسرارا، ربما لم يفقه الكثيرون بعضاً من غرائب الشخصية وأسرارها، المُفصح عنها أو الغائبة، لكن الأقربين إليه همّ أكثر الناس دراية بأحواله وأسراره، ومع ذلك وفي ذكرى التأبين تفقد المكتبة الأردنية واحدا من أعمدة التاريخ فيها. وتظل فرصة التذكر مناسبة للبدء بقراءة تاريخ الأردن عبر سيرة المؤرخ سليمان الموسى، وهي تبرر إمكانية المراجعة عبر دفاتر الوطن الذي شيدت سيرته بعزم المخلصين.

[email protected]