سموم العقل وسموم البدن

 كنّا نعلم ذلك منذ زمنٍ بعيدٍ، ولكن فضيحة الخضار المصدّرة إلى الإمارات وضعت الحكومة أمام مصيرنا الصحيّ الأسود الذي تآمرت على تحقيقه همالةُ حكومات متتالية وضميرٌ ميتٌ لمختبراتها الفاسدة. ولا أدري أين تقفُ وزارة الصحة عبر عقودٍ وعقودٍ وهي ترى فسادَ الزراعة وأدواتها واستراتيجياتها المريضة، وهو يعيثُ في صحتنا بحيثُ غدونا مثالاً يُحتَذى في استنبات مرض السرطان والمعاناةِ منه ثمَّ تعميمه.اضافة اعلان
فنحنُ نعلمُ منذ عقود أن الغذاء الحيوانيّ مشكوكٌ في أمره، فلم يعد نباتياً محضاً، كما هو أصلُ غذاء هذه الكائنات، بل دخلت فيه العناصر الحيوانيّة المصنَّعة كما دخلت الهرمونات، ولذا فلدينا دجاجٌ نباتي (إذا صدقوا في ذلك)، وهناك بيضه كذلك، مما يعني أن سائر المنتوج المستهلَك إنما هو صيغةٌ إبليسيةٌ للكسب السريع من جهة، تحمي مافياتِه وتتواطأُ معها أجهزة الدولة الرقابية، وهو كذلك صيغةٌ شريرةٌ لتأصيل الأمراض في هذا البلد المنكوب في إداراته ومسؤوليه.
كما نعلم منذ عقود أن طريقَ التسيّب والإهمال في وزارة الزراعة التي تسمحُ باستيراد المواد الكيماويّة والمبيدات التي تقتلُ مع الحشرات كلَّ ما هو نافعٌ منها لصحة الأرض والنبات وتوازن الطبيعة، واستيراد البذور المعدَّلة جينيّاً التي تربطنا مع مافياتٍ عالميةٍ أوجدها نظامٌ رأسماليٌّ جشعٌ ومتوحّش لتدمير الزراعة الطبيعيّة على هذا الكوكب، وتحويل أصحابها عبيداً سنويين لها، حيث لا تُنتجُ نباتاتُ هذه البذور بذوراً تصلحُ للزراعة. وبذا يضطرُّ المزارعُ أينما كان، إلى شرائها سنوياً.
وليس بعيداً عن هذا الخلل الكبير في الإدارة الزراعيّة والرقابة الصحيّة، ثمة فسادٌ آخر كم نبّهنا إليه، هو الفساد الفكري والثقافي والتربويّ الذي سمحَ باستيراد سموم للعقلِ فتكت بالنسيج الفطري لأخلاق المجتمع، وأعني السلفيّة البائسة التي حوّلت أفراد المجتمع إلى دمى تُحرّكها خيوط الخارج، ولا تهيجُ إلا للتكفيرِ وإلغاء التنوّعِ والآخر. ونتجَ عن ذلك أنَّ هويتنا العروبية الوطنيّة المتماسكة قد تحوّلت جذريّا لصالح هويّة وافدةٍ قندهاريّة تتربّصُ بالمختلفِ وتدعو إلى قتاله كعدوٍّ خارجيّ، وهو ما أوجدَ نعراتٍ طائفيّةً تصنّف الناس على أساس الدين أو المذهب، كما خلقَ تياراً عريضاً لمقاومة الحداثةِ وتكفيرها، بل وتحطيمها.
وهكذا اجتمعَ علينا المُظلمان: فسادُ البدنِ وفسادُ العقلِ والأخلاق والدين، بحيثُ غدا من الصعبِ أن نرجو خيراً من حكوماتٍ تتغوَّلُ وشعبٍ يصدّرُ لداعش الآلاف القتلة.
ولا أملَ إلا في قوى مجتمعٍ مدنيٍّ وحراكٍ سلميٍّ يُقلقُ راحة الحكومة، ويُجبرُها على لملمة حمقاها وفاسديها، وشحنهم إلى مصيرهم القانوني، وخلعهم عن فرصهم في الاستهتار بحياتنا الصحية والعقلية والروحيّة. لا أمل إلا في حركاتٍ شعبيّةٍ مما بقي من مستنيرين ومستنيرات، لصدِّ هذا الفساد العظيم.
دعونا لا نفقد الأمل...!