سهرات الحكومة من أجل "الأجيال المقبلة"

يتحدث المسؤولون دائماً عن "الأجيال المقبلة".
مؤتمرات.. ندوات.. ورش عمل.. حلقات نقاشية.. كلها.. كلّها تهجس براحة "الأجيال المقبلة"، ومهمومة بها.اضافة اعلان
هذا بالطبع يحتاج إلى موازنة ضخمة؛ ولكن لا يُهِمّ، "الأجيال المقبلة" غاليةٌ جداً على قلب الحكومة، ولا تتردَّد في هذا الشأن أبداً، وثمَّة مؤتمرات كثيرة ما تزال في البال، ستعقد من أجل هذه الشريحة من الناس التي لا تقدَّر بثمن، أقصد "الأجيال المقبلة"!
كومة هائلة من "أوراق العمل" في مخازن وزارات التربية والصحة والعلوم والزراعة والتموين والرياضة، كلها سهر عليها مسؤولون بارزون، وموظفون نشيطون، ثم في الليلة التالية سهر عليها موظفون آخرون لتنقيتها من الأخطاء الإملائية، كُلُّ ذلك يحدث بوتيرة عالية ومحمومة خشية أن تصل "الأجيال المقبلة" قبل أن ننهي التحضيرات اللازمة لاستقبالها!
بل إن مسؤولين كثيرين لا ينامون؛ يمضون الليل بتوتّر وقلق: ماذا نطبخ لـ"الأجيال المقبلة" غداً على الغداء؟!
ولا يخلو الأمر بالتأكيد من خبراء، "يصفنون" طويلاً في تخيّل حاجات "الأجيال المقبلة"، ومتطلباتها، وأمزجتها، ووجباتها المفضَّلة، من أجل أن يكون كل شيء جاهزاً لحظة وصولها، فلن يضطر الواحد منها، من الأجيال أقصد، أن يخرج حتى لشراء علبة عصير؛ فكل شيء سيكون جاهزاً ومعدّاً على أفضل وجه، وليس على "الأجيال المقبلة" سوى أن تتمدَّد ببيجامات ملوَّنة "ستكون بدورها جاهزة ومعلَّقة في حَمَّامات من الرخام الفاخر".. وتتأمَّل في التلفزيون أو في السقف أو في أصابع قدميها!
هكذا أتخيّل النعيم الذي تبذل الحكومات كل جهدها لتحضيره، من أجل أحفادنا المدلَّلين، ومن أجل رفاههم وسعادتهم، وأتخيل وفوداً رفيعة المستوى في سيارات فاخرة، واقفة تتصبَّب عرقاً وسط ساحة احتفال ضخمة، بانتظار "الأجيال المقبلة" التي ستصل محمولةً على هوادج مزينة بالحرير والقصب.
قد تحدث أخطاء بسيطة وغير جوهرية، مثل أن تكون المياه غير ملونة في حوض السباحة، أو إن الغزلان نامت باكراً وتكدَّست على درج البيت، أو أن السائق لم يلتزم بموعده اليومي في إحضار الفلافل والعسل على الفطور!
لكنّها كلها أخطاء على بشاعتها، يمكن تجاوزها في اليوم الأول، بسعة صدر من أحفادنا الأعزاء، وسيتفهمون الارتباك الذي حدث لنا خلال الاستقبال، وأنها أخطاء لن تتكرَّر، وسيناقش مجلس الوزراء على الفور تلافيها في اليوم الثاني!
..
هذا الدلال المفرط الذي يحظى به أبناؤنا الذين في علم الغيب، يثير غيرة "الأجيال الحاضرة"، التي لا يكاد يسهر من أجلها أحد!
ويثير تساؤلاً كوميدياً: ألم نكن نحن في يوم من الأيام "أجيالاً مقبلة"؟!
وهل ما "نحظى" به الآن هو نتيجة أوراق عمل وسهر طويل قام به مسؤولون كرام؟
كيف لو لم يسهروا إذاً؟!