سواليف حصيدة

الحصاد عمل شاق، يشير إلى النشاط الذي يقوم به المزارعون لجمع المحصول في نهايات الموسم الزراعي. ويشارك فيه أفراد الأسر الزراعية، صغارا وكبارا، ويستمر لأسابيع وربما أشهر؛ إذ يدخل الفلاحون في سباق مع الزمن، في محاولة للانتهاء من جمع المحصول قبل وصوله إلى درجة من النضج تؤثر على جودة المنتج، بحيث يصعب معها التحكم في عمليات جمعه ونقله وتصنيفه وفصله، وتسويقه وتخزينه.

اضافة اعلان

في مثل هذه الأجواء، تبرز الحاجة إلى إنجاز العمل بسرعة قياسية، ما يدفع الفلاحين إلى بذل جهود مضنية في زمن محدود، وتحت شروط مناخية قاسية. وهذا ما يزيد من حاجتهم للترفيه والتسلية، ليحافظوا على قدرتهم على أداء العمل المطلوب، في ظروف حدة الطقس والإجهاد الذي يسببه العمل المتواصل. ومن ثم، فتحت هذه الظروف يشغل الحصادون أنفسهم بقصص وحكايات وأماني ووعود كثيرة، يجري تداولها أثناء تأدية أعمال الحصاد، ويطلق عليها اسم "سواليف الحصيدة".

الوصول إلى موسم الحصاد يبعث في نفوس الحصادين التفاؤل والبهجة والأمل، ويدخلهم في أجواء وطقوس احتفالية تستمر طوال المواسم. إذ بعد الانتهاء من جمع المحصول، تتوالى الاحتفالات، وتنشط الحياة الاجتماعية؛ فتكثر مناسبات الفرح، ويجري تزويج الأبناء والبنات، وتشترى كسوة الأطفل، كما يتم سداد الديون.. وهكذا تشهد علاقات الأسر انفراجا، وتزداد حيوية وانفتاحا على محيطها وشركائها، من التجار والدائنين والجيران.

التفاؤل والشقاء، والسرعة، والحاجة إلى التغلب على الملل والرتابة، كما الحاجة إلى تحفيز الحصادين على مواصلة عملهم، هي الأجواء التي تستدعي نسج القصص والحكايات والروايات التي تبقي على روح الحصادين المعنوية عالية، وتساعدهم على تجاوز ألوان التعب والقساوة والملل الذي قد يتسرب إلى نفوسهم. فمعظم السواليف التي يرويها الحصادون لا أساس لها، بل جرت صياغتها للاستهلاك الآني، وبعضها يشبه الهذيان. لكن الجميع يستمع لها، إنما لا يأخذها على محمل الجد.

هذه الأيام، نسمع الكثير من القصص والوعود التي لا تختلف عن "سواليف الحصيدة". فكثير من التحليلات والسيناريوهات التي توصّف الأوضاع وتحدد الأولويات وتخرج بالتوصيات، تشبه قصص الحصادين. فالبعض في عجلة من أمره ويريد أن ينقل عدوى العجلة للجميع. والبعض الآخر يقدم توصيفا هائلا لبطولات لا أساس لها على الأرض. مع ذلك، تجد العديد من المريدين والأتباع يسوّقونها ويبتدعون شواهد ليدللوا على صحة وجودها ونجاحها.

بالرغم من انتهاء أجواء الحصاد وقسوتها، وعزوف كثير من الفلاحين، هذه الأيام، عن هذا النشاط الذي كان أساسيا في حياتنا وثقافتنا، إلا أن "السواليف" التي صاحبت تلك المواسم بقيت حية، وربما أنها تطورت عما كانت عليه أيام الحصاد. فالنساء والرجال الساسة، والشعراء الأصوليون والحداثيون، تغريهم ثقافة الحصاد وسلوك الحصادين، فيقبلون على "سواليف الحصيدة" ويتقنون تراكيبها، بما في ذلك الهذيان الذي كان يمارسه الحصادون بفعل صليات الشمس والإرهاق اللذين يتكاتفان على إنهاك قوى الفلاح، لكنهما لا يقتلان فيه الأمل أو يثنيانه عن مواصلة الجهد في غليان تموز وتحت لهيب آب، في الحقول التي عرفها المساحون بأنها موطن الزراعات الشمسية.

في كل أرجاء العالم اليوم، حديث عن خطط وأهداف ومؤشرات تنبثق من برامج يتنافس من خلالها اللاعبون في الاقتصاد العالمي، والراغبون في أن يكون لهم مكان على خريطة السباق نحو المستقبل. فيما تنشغل معظم مجتمعاتنا في قصص حول المحبة والكراهية والاختلاف، والقصص و"السواليف" التي لا تختلف كثيرا عن "سوالف الحصادين". لكن الفرق بين تلك "السوالف" وقصص اليوم، هو أن الحصادين ابتدعوا القصص والحكايات لبث الأمل، وتجاوز لهيب الشمس الذي لا مناص لهم من العمل تحت أشعته التي حولت الحقول الخضراء إلى لونها الأصفر، وتعهدت بأن تُذهب رطوبة الشتاء وتُنتج من ورود الربيع بذورا للموسم المقبل، ضمانا لاستمرار الحياة.

"سواليف الحصيدة" قصص ترويها الجماعة لنفسها عن نفسها، جلّ وظائفها أنها تبرر الخيبات، وتدافع عن الواقع وتزينه. فالسواليف لا قيمة لها إلا في قتل الوقت، وإشغال الرواة والسامعين في حديث لا معنى ولا مبرر ولا وظيفة له، غير خدمة الأوضاع الراهنة، والحيلولة دون التفكير في آفاق جديدة.

إعادة إنتاج الماضي وقصصه، عائق من معيقات النهضة والتقدم، ووصفة للدخول في سبات عميق.

*وزير سابق