سورة البقرة: ارتباط الاسم بالموضوع

Untitled-1
Untitled-1

د. محمد المجالي

رغم كونها أكبر سورة في القرآن، ورغم تعدد موضوعاتها وتنوعها، إلا أننا يمكن أن نجتهد في البحث عن محور رئيس لها، أو ما يسمى بالوحدة الموضوعية، وكذلك البحث عن العلاقة بين هذه الموضوعات والمحور مع الاسم ذاته، البقرة، لم كان هكذا، رغم وجود أسماء وموضوعات أخرى؟اضافة اعلان
هي من أوائل السور التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وقد تكون آيات منها هي الأولى على الإطلاق مما نزل بعد الهجرة، ولنا أن نتذكر أن البيئة الجديدة التي انتقل إليها- صلى الله عليه وسلم- تختلف عن بيئة مكة، حيث الأنصار أولا، وهم الذين آمنوا به وهيؤوا له انطلاق دولته، وهناك مكوّن آخر للمجتمع المدني هو اليهود، ومكوّن ثالث لم يكن موجودا ابتداءً، ولكن لا بد من ومضات وإشارات إلى طبائعهم وخصائصهم حتى يحسن التعامل معهم، وهم المنافقون، فكانت السورة تهيئة للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في كيفية التعامل مع هؤلاء جميعا.
ذكر بعض العلماء أن هذه السورة هي سورة خصائص أمة الخلافة، فقد ذكر الله مهمة هذا المخلوق الذي أخبر الملائكة بأنه خالقه، وهي أنه خليفة، ولكن من شأن نسله أن يفسدوا في الأرض ويسفكوا الدماء، فهم ليسوا ملائكة، بل مكلفون وفيهم نزعتا الخير والشر، ومن هنا ندرك ونتوقع الجانب السلبي في حياة الناس، ولذلك جاءت هذه السورة تبين خصائص أمة الخلافة، وسميت (البقرة) بمناسبة سياقها وليس ذات البقرة، فقصة البقرة عكست التردد والسلبية في الشخصية والهروب من المسؤولية، وهذه أمور لا ينبغي أن تكون في أمة الخلافة.
وإذا نظرنا في كامل قصص بني إسرائيل في السورة، وجدنا الاحتيال، والميل إلى الاستضعاف، والتململ من التكليف، وعدم الصبر، لا على طعام ولا على ابتلاء ولا على تكليف، ولذلك ابتدأ الحديث عنهم بتذكيرهم بما أنعم الله عليهم وتفضل به عليهم من أمور مادية ومعنوية، ومع ذلك قابلوا إحسانه بالإساءة والتململ والإنكار، كيف لا وهم الذين أنجاهم الله من فرعون بآية عظيمة حيث انشق البحر لهم، ولما وردوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة!!
حتى قصة الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى التي ذكرت في آخر السورة، وهي قصة طالوت وجالوت وداود، حيث بينت تخاذلهم وتناقض أفعالهم مع أقوالهم، وكيف ذكر الله داود من دون مقدمات إذ كان في جيش طالوت، وهو الذي قتل جالوت، وأخبر عنه في سورة أخرى بأنه جعله خليفة (يا داود إنا جعلناك في الأرض خليفة).
إن السورة بكاملها تعتني بالتوجيهات التي ينبغي أن تتأسس في أمة الخلافة، من هنا كان التصنيف ابتداء بذكر أصناف الناس، مؤمن وكافر ومنافق، وكان التذكير بالخلق، وآدم، وطبيعته، وميوله وما يوسوس به الشيطان له، واسترسلت السورة في الحديث عن بني إسرائيل، ثم موضوع النسخ، ثم خلافاتهم وتناحرهم (اليهود والنصارى)، وخبايا صفاتهم، كل ذلك ليؤخذ بعين الاعتبار في تعامل النبي محمد صلى الله عليه وسلم معهم.
ثم جاءت قصة إبراهيم في بنائه الكعبة، وفي دعائه، حيث الإشارة إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وأمته الوارثة، بعدها يبدأ شوط طويل من التشريع، بشقيه: العبادات والمعاملات، ويبدأ بتغيير القبلة، وفيها إشارة واضحة إلى مخالفة أهل الكتاب، وتميز الأمة، ثم التشريع حيث ما له علاقة بتكريم النفس بمنع إزهاقها، حيث بعض أحكام القصاص، والوصية حيث المال ومستحقيه، ثم الصيام والحج والقتال، وتشريعات الأسرة بتفاصيلها الدقيقة، وأسهب السياق في الطلاق تحديدا حيث النزاع والتفكك واهتزاز المجتمع وتخلخل لبناته، فهي إشارة إلى أن نقطة الانطلاق من الأسرة كيف نُحْكم بناءها على الأصول الصحيحة، وكيف تكون البيوت مكوّنات رئيسة في بنيان المجتمع المتراحم المتماسك. وهناك أيضا الإشارة إلى الأمة الواحدة، وما يعين على المسيرة من صبر وصلاة، وهكذا.
وختمت السورة بآية الكرسي، وما تلاها من تعظيم لله، واليقين بقدرته تعالى على فعل كل شيء، فكانت قصة إبراهيم مرة أخرى في محاجته للنمرود، وكيف أراه الله كيف يحيي الموتى، وأحكام مالية من الإنفاق والديون والربا، وكأن لسان حال السورة يقول: قد فصلت لكم ما تحتاجون إليه من أمور حياتكم، فلتكونوا منقادين مُقْدمين راغبين في عبوديتكم لله، غير مترددين ولا متثاقلين.
هي سورة متعاضدة من حيث ارتباط موضوعاتها رغم كثرتها، سورة تريد من المسلم أن يكون منطلقا من الكتاب ذاته، لا ريب فيه، هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون، هم راسخون في عقيدتهم وسلوكهم، وتنتهي بهم السورة في أنهم مؤمنون آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهم يحسبون لسلوكهم وإيمانهم كل حساب، حتى ما يختلج في صدورهم، ما أبدوه أو أخفوه.
وما أجملها من نهاية ملائمة لمميزات أمة الخلافة، فهي كثيرة، ولكن: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"، وما أجمله من دعاء يُشعر بالتكليف والمسؤولية: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، "ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين".