سورية.. ما أشبه اليوم بالبارحة

ليست صدفة أن تشهد بلاد الشام على وجه التحديد كل هذا التحشيد الأممي، والاصطفاف الدولي، فالمنطقة طالما كانت مطمعا لغزاة على مر العصور، ولطالما شهدت ميادينها المختلفة معارك مع غزاة قادمين من الشرق حينا، كالتتار والمغول، وآخرين من الغرب، كالإغريق واليونان والاستعمارين التركي والفرنسي لاحقا.اضافة اعلان
اليوم يتكرر المشهد، ولكن بأدوات مختلفة عن أدوات الأمس، من حيث الطريقة والتنفيذ والوقود، وهذا يتجلى من خلال مشاركة دول في الإقليم في معركة تفتيت بلاد الشام لدويلات أصغر من تلك القائمة اليوم، وهو ما عجزت عنه سابقا أيادي الاستعمار وأعوانه في المنطقة، قبل نحو 100 عام.
من يقرأ التاريخ، يتمكن من قراءة الحاضر والمستقبل، والتاريخ القريب يقول لنا إن الاستعمار الفرنسي عمد إلى تقطيع أوصال سورية، فقسمها لعدة دول، فشهدت في عهده حكومات ليست دولا مستقلة، وهي دولة دمشق (1920) ودولة حلب (1920) ودولة العلويين (1920) ودولة لبنان الكبير (1920) ودولة جبل الدروز (1920). كان لكل منها علم وعاصمة، وبسبب الرفض الشعبي للتقسيم، وعدم الاعتراف به، قامت فرنسا العام 1922 بإنشاء اتحاد فدرالي فضفاض بين ثلاث من هذه الدويلات (دمشق وحلب والعلويين) تحت اسم "الاتحاد السوري"، وفي الشهر الأخير من العام 1924 قرر الفرنسيون إلغاء الاتحاد السوري، وتوحيد دولتي دمشق وحلب بدولة واحدة هي دولة سورية، وأما دولة العلويين فقد فصلت مجددا وعادت دولة مستقلة بعاصمتها في اللاذقية، كما جعل لواء اسكندرون إدارة مستقلة.
إذن، فكرة التقسيم ليست غريبة علينا، فلطالما عانت هذه البقعة من العالم من مراحل تقسيم مختلفة، بدأت بسايكس-بيكو العام 1916 وسان ريمو لاحقا، وما تلاها من محاولات، وصولا الى التقسيم الأكبر عندما انسحب الاستعمار البريطاني من فلسطين، وتركها للصهاينة لإقامة كيانهم على جزء منها.
دول الاستعمار العالمية، التي ساهمت في إيجاد كيان محتل (إسرائيل) في قلب المنطقة ما تزال متفقة على حمايته، وإبعاد كل خطر، ولو كان محدودا، يهدده، وما تزال تلك القوى تختلق مشاكل هنا وهناك لتأمينه، ولا بأس من تأمين تمدده أن نجح الأمر.
المشهد السياسي القائم اليوم يشي بمعركة تقسيم جديدة، بدأت خيوطها تتضح في مفاصل وأركان معينة، وما تزال غائمة في أخرى، وبطبيعة الحال الهدف الأبعد واحد، أساسه تأمين الكيان الصهيوني.
مخطط التقسيم الأبرز يظهر اليوم في سورية بأدوات تكفيرية، وروافع وتمويل إقليميين، وهو المخطط الذي طالما تكسر قبل عقود، ولا بأس من إعادة المحاولة، رغم إيمان أصحاب تلك المخططات أن أفكارهم تلك عصية التطبيق، ومرفوضة جملة وتفصيلا، فوحدة الأرض السورية وتماسك جيشها أمر لا نقاش فيه، ولا حوار حوله.
المبكي فيما يجري اليوم، أن دولا عربية وإقليمية وضعت يدها بيد أصحاب الأجندات تلك، فأدخلت مسميات دينية وإثنية على الصراع، وأسبغته عليه مسميات دينية، سني-شيعي-علوي-كردي- تركماني، حوثي-سني، قبطي-مصري-نوبي، عربي-أمازيغي-مسيحي، وغيرها من المسميات الإثنية والمذهبية، التي ماتزال قنوات عربية تعمل عليها ليل نهار، وتجد لها وقودا من شباب مغرر بهم، يُغرس في عقولهم أن ما يفعلونه "جهاد في سبيل الله!"، فيذهبون بحثا عن "حور عين!"، وعدهم بها شياطين الضلال، الذين غرروا بهم، وصوروا لهم أن المسجد في العراق أو الكويت أو سورية أو اليمن، يدخله كفرة مرتدون مارقون خارجون عن الدين، ومنحوهم حق معاقبة الناس، وتكفير هذا وتمجيد ذاك، والخروج على هذا الحاكم، وحماية ذاك.
ما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشبه ما يجري بما جرى عبر تاريخ مضى، وما أبعدنا عن الرقي والتطور الذي أوصل العالم الى ما وصله، وجعلنا بفضل شياطين الجهالة في أسفل الدرك والظلام.