سوريَّة ليست حبيبتي!

..إنَّها الآنَ امرأةٌ سابقةٌ في حياة العربِ، وحبٌ قديمٌ لا يُثيرُ الأسى. على زندها الأيسر كتبَ كلُّ عربيٍّ شاب أول نقش في العشق المُستَرَقِ، وجاءَها الرجالُ من كلِّ الزوايا المعتمة يطلبونَ غرة النهار، ولما غادروها خبأوا ضوءَها في أنفاق بلاد لا يغادرُ توقيتها منتصف الليل؛ سوريَّة الآن لكلِّ العرب، واحدةٌ من نساء قليلات وجوههنَّ جميلة، ولا يستذكرونها إلا بقول ابنها الشاعر:"..ويَصرْنَ أجمل عندما يبكينا"!اضافة اعلان
وهي ليْسَتِ الآنَ على ما يُرام..؛ وحيدةٌ مثل نجمةٍ سينمائيَّةٍ لا بطل يطولُ قامتَها، أو سماءٍ يخشى العبادُ المذنبونَ من النظر إليْها، هي النهرُ المهجورُ الذي تغيَّر لونَهُ إلى الأحمر فخشي المتنزهونَ الرجوعَ إلى مكان الجريمة، أو المسرحُ الذي انقلبت أدواره وصارت مقاعدُ المتفرجين ساحة لـ 20 مليون عرض موندرامي غير مسموع الألم..؛ هي إذاً البلادُ المغلقةُ على "حبِّ لا يرى الشمس"!
لا كتفٌ تبكي عليه سورية إذا أرادت البكاءَ، وإذا توجَّعَ وجعُها لا وجهَ قريباً أو بعيداً يستجيبُ بنخوة أو استرخاء لندائها المُكابِرْ: "أخ". مذبوحَةٌ على مذبحها من الوريد "اللاذقيِّ" إلى الوريدِ "الزوريِّ"، لا عاشقٌ يهتفُ باسمها حين يقصدُ امرأةً أخرى، أو شاعر يمرُّ باسمها ويبتسمُ:"شكوتُ دمشق إلى الشام، كيف مَحَوْتِ ألوف الوجوه، وما يزال وجهكِ واحدا"، خاليةٌ طرقُها من المارَّة، لم يأتِها إلا "نبيل العربي" حاملاً مهلة إضافيَّةً لاكتمال موتِها حتى العام 2014!
"موسم الهجرة إلى الشمال" العربيِّ مصابٌ بالركودِ، لا فضولَ لدى العربِ لرؤيةِ نوعٍ واحدٍ من الموت: "تمثيلٌ ساديٌ في الجثث"، فلا بشر يزاولون الحياة: كلُّ منْ يمشي، أو يقفُ في طابور ما، أو يذهب إلى العمل في الثامنة صباحا، أو لا يتأخرُ عن موعده الزوجيِّ في التاسعة مساء..؛ هو يراوغُ بجثته، حيِّزاً محدوداً من الزمن، قبل تجربة أدوات الصعق المتجدِّدَة، وطرائق الشبْح المعقدة، وقبل أنْ يُصيبَها بلا تردد رصاص قناصة لا يخطئونَ الرؤوس التي تغادرُ القطيعَ؛ مَنْ لم يمت حتى الآن، سيكبر ظله إلى ألا يبلغه مديحٌ!
"بابُ الحارة" مغلق..؛ فإلى أين يأتي العرب و ع "الحدود" جنودُ "شمال ستان" يأخذونَ حياتكَ أو يُعيدونَها بورقة خضراء من فئة المائة. وإلى أين يدخلونَ..؛ فلا كحل اليومَ في عيون "الشاميات"، ولا ترف لتقديم أصناف المقبلات في طعام اليوم الثالث من العزاء..، شاغر فنجان قهوة "سلمى المصري" في "أرض الديار" بمسلسل يُعَدُّ لشهر رمضان، والعربيَّةُ السمراءُ لن تغافلَ أهلها وتخرجَ من الفندق أول المساء إلى "مقهى الروضة"، لتسترق نظرة ولـَهٍ عن كثب لـ "كاريزما" دمشقي وسيم اسمه "تيِّم حسن"!
وقتٌ خال من الأجزاء، لا أحد يسألُ "متى يُعلنونَ وفاة العرب؟"؛ أو يعرفُ أنَّ للرجال هنا، في "الرستن" تحديداً "نهاية رجل شجاع"، يفضلونَ الموتَ مع رجل رفيع اسمه قميء "الزلقوط"، على أنْ يواصلوا المشيَ بقدميْن مبتورتيْن. ليست عادية أيامهم، تذهبُ إلى خلودها بأذرع مفتوحةٍ تحنُّ للصلبان الخشبيَّة في "باب توما"؛ رجالٌ طيبونَ هم، يموتون بلا تذمر لا يربكُ رحيلهم إلا تساؤلهم البريء بلا إجابة: كيف لا تخجلُ محال الحلويات في "الصالحية" من ذرِّ السكر في وجه الموت؟!
"سورية يا حبيبتي": لو أنَّ المغنِّينَ الثلاثة لم يُمجِّدوا نصرَ "الحافظ" المزعوم، لعادت لي كرامتي وهويَّتي؛ وصارت العروبة أوثقَ من شعارات معلقة على "فروع المخابرات" وأكثر جديَّةٍ من مقالبٍ سمجة لـ "غوار الطوشة"، ما كنَّا سننتظرُ بلا أمل خروجَ الناجينَ من الموتِ المجانيِّ في رواية "القوقعة"..؛ لو أنَّ المغنِّينَ الثلاثة ما كذبوا لكانت سورية "المرأة الواحدة التي يهواها القلبُ..، وهي الدنيا"!

[email protected]