سويسرا فلسطينية..؟!

 

علق صديق على قرار الرئيس الأميركي حجب مبلغ 200 مليون دولار من المساعدات للسلطة الفلسطينية، باقتراح. قال إن أحد الردود قد يكون تسريح عدد كبير من أفراد قوات الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية، بذريعة عدم توفر رواتبهم بسبب قطع التمويل الأميركي. ومن حيث المبدأ، سيوجه مثل هذا الإجراء لطمة كبيرة إلى كيان الاحتلال الذي عوّل في السنوات العديدة الماضية على هذه القوات لحراسة احتلاله المريح ذي "الخمس نجوم".

اضافة اعلان

لكن الإدارة الأميركية الماكرة ليست غافلة عن هذه المسألة. وكتب المحلل نيري زيبلر في مجلة "فورين أفيرز" مؤخراً: "على نحو يقول الكثير، أحجمت الولايات المتحدة عن قطع المساعدات المباشرة (60 مليون دولار) المخصصة لقوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، وهي علامة على أن واشنطن تقدر عملهم، خاصة التعاون الوثيق مع نظرائهم الإسرائيليين".

وفي الحقيقة، تتلاقى هذه العناية الأميركية بقوات الأمن الفلسطيني مع رؤية القيادة الفلسطينية في رام الله، لأنها مكون أساسيّ لـ"سويسراً" فلسطينية يتصورها الرئيس الفلسطيني. ونقل أناس حضروا لقاء بين الرئيس ومجموعة أكاديميين من الكيان قوله لهم: "أنا أريد دولة فلسطينية في حدود 67 بدون جيش. أنا أريد رجال شرطة يحملون العصي وليس السلاح. بدل الطائرات والدبابات، أفضل إقامة المدارس والمستشفيات وتخصيص الميزانيات والموارد للمؤسسات الاجتماعية".

من الواضح، مع ذلك، أن ما يُخطط للفلسطينيين ليس سويسرا فلسطينية، ويُفترض أن يميز الرئيس الفلسطيني بين التصور الطوباي والواقع العملي. فمن حيث المبدأ، حبذا لو تكون هناك "سويسرا فلسطينية" بظروف وشروط سويسرا الأوروبية المسالمة المزدهرة! لكن أميركا والكيان لا ينطويان على حسن نية الأوروبيين حين نشأت سويسرا الأوروبية. وستكون أول صفة لسويسرا الضفة هي إلقاء أكثر من عشرة ملايين فلسطيني من اللاجئين الفلسطينيين في العراء. بل إن الشرطة منزوعة السلاح لن تلبي حاجة الكيان ورعاته في واشنطن إلى قوات وكيلة تحرس أمن المستوطنين وتقمع بفعالية أي تحركات شعبية فلسطينية نحو "التمرد".

في مناسبات سابقة، كتب محللون من الكيان وأنصاره، محذرين من خفض تمويل السلطة الفلسطينية، متذرعين بأن تأزيم السلطة ربما يدفع بانهيارها. ونقل زيبلر عن مسؤول أمني رفيع في الكيان قوله: "إنني أقدر كثيراً العنصر المدني والاقتصادي... كان السبب في عدم قيام انتفاضة ثالثة". ومن الواضح أن وجود السلطة الفلسطينية، بشروطها الراهنة، هو أهم سبب لعدم قيام انتفاضة والتسبب للعدو بالصداع. كما أن ثمة حاجة عملية لوجود السلطة بالنسبة لأعداء الفلسطينيين، لأنها أصبحت بعد أوسلو الجهة الرسمية المخولة بالتوقيع نيابة عن الفلسطينيين.

مع ذلك، يخدُم وجود السلطة كعنصر في مفارقة خطاب الكيان المفضوحة عندما يتعلق الأمر بالتفاوض والتسوية: "لا يوجد شريك فلسطيني"! ما هي السلطة إذن؟ ولماذا تصبح مهمة عندما يتعلق الأمر بالتنسيق الأمني، أو الادعاء أمام العالم بأن هناك "عملية سياسية" جارية يشارك فيها الفلسطينيون لحل القضية وإنهاء الاحتلال؟

لا حاجة إلى إعادة سرد البراهين على موت ما تُدعى "عملية السلام"، فقد ماتت فعلياً منذ نكث العدو بآليات أوسلو ومواعيده النهائية. ومن الواضح أن "سويسرا الفلسطينية" بالتصور الأحمق المطروح ستكون -إذا كانت- بلا قدس ولا معظم الفلسطينيين. ولعل الخيار الوحيد الذي يكتسب منطقاً مطرداً، هو حل السلطة الفلسطينية، ومعها أهم شيء: قوات الأمن الفلسطينية، والعودة بقرار القضية إلى مجلس وطني فلسطيني بتكوين جديد ولا يكون تحت يد جيش العدو.

سوف يقول البعض إن السلطة الفلسطينية أصبحت صاحب عمل الآلاف من الفلسطينيين الذين يرتزقون من العمل عندها. ولكن، بماذا يعملون؟ وهل يستحق الأمر أن يعمل الفلسطيني شرطياً يدفع له ترامب راتبه مقابل خدمة يريدها ترامب؟ وهل كان الفلسطينيون ميتين من الجوع قبل السلطة؟ وهل هناك أي وعدٍ ينطوي عليه التمسك بهذا التكوين بعد ما حدث ويحدث؟

هناك الكثير من المنطق في أن يفعل المرء بالضبط ما لا يريده الخصم، وما يضايقه ويضر بقضيته. وعليه: إذا كان الأميركان والكيان يحرصان على بقاء السلطة الفلسطينية على أساس أهميتها الأمنية أولاً، والوظيفة السياسية الوحيدة الظاهرة، التوقيع على التنازل، فيجب ضربهما من هذا الجانب بالذات، إذا كانت نوايا القيادة الفلسطينية تتصل بالوطنية والنزاهة. أما "سويسرا" الفلسطينية، فربما تتاح فقط لنخبة بنوك تعمل عند العدو.