سياسات تركيا العدوانية الحازمة تثمر في سورية وليبيا، وفي البحر

figuur-i
figuur-i

ديفيد ليبسكا* - (أحوال تركية) 31/8/2020

أثبتت تركيا مرارًا وتكرارًا، في سورية وليبيا والبحر الأسود وبحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط، استعدادها لاتخاذ إجراءات عدوانية لتعزيز مصالحها. وفي الأسبوعين الماضيين، عززت تركيا وجودها العسكري في محافظة إدلب السورية وأعلنت وقف إطلاق النار في ليبيا، ما عزز أهدافها التوسعية.
وسعت تركيا من عمليات الحفر بالقرب من جزيرة كاستيلوريزو اليونانية، وهو ما أدى مسبقاً إلى وضع القوات اليونانية في حالة تأهب قصوى؛ وأعلنت عن اكتشاف كبير للغاز في البحر الأسود، يمكن أن يغير قواعد اللعبة لمصالحها في مجال الطاقة.
ولم تبد دول الغرب أي ردة فعل سوى مجرد توجيه اللوم والنصح. وقد أجرت اليونان وقبرص وفرنسا وإيطاليا تدريبات عسكرية مشتركة جنوب قبرص في أواخر شهر آب (أغسطس) الماضي، وزار وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، أثينا وأنقرة في محاولة لتهدئة التوترات الشديدة، وندد مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية بموقف تركيا العدواني، واجتمع الاتحاد الأوروبي بوزراء الخارجية لمناقشة فرض المزيد من العقوبات ضد تركيا. وبعبارات أخرى، لم يتم اتخاذ أي خطوة حقيقية للحد من العدوان التركي، ما يعزز موقف ونفوذ أنقرة.
يقول ديميتار بيتشيف، زميل مجلس الأطلسي، لموقع (أحوال تركية) في تدوينة صوتية "في الوضع الحالي، يبدو النجاح حليفاً للجانب التركي، على الأقل على المدى القصير. ولكن الأمر لا يخلو من التكاليف بالتأكيد. هناك تحالف في شرق البحر الأبيض المتوسط يتحد حول اليونان وقبرص".
وأشار بيتشيف إلى قيام القوات الجوية الإماراتية بإجراء مناورات مشتركة مع القوات اليونانية في الأسابيع الأخيرة، وربما تكون الخطوة الملموسة الوحيدة من قبل اللاعبين الغربيين لمواجهة تركيا هي الاتفاقية البحرية التي وقعتها اليونان مع مصر، التي تم التصديق عليها في الفترة الأخيرة.
ظهر هذا الاتفاق، الذي يوسع مناطق أثينا في شرق البحر المتوسط ويتحدى تلك التي قدمتها تركيا في اتفاقها مع حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، بعد أيام من جولة من المحادثات الاستكشافية بين تركيا واليونان، التي نتج عنها تمسّك أنقرة بموقف أكثر حزماً.
في العامين الماضيين، رسخت تركيا نفسها في سباق الموارد الهيدروكربونية الإقليمية، متحدية السفن اليونانية والفرنسية والسفينة التجارية الإيطالية في شرق البحر المتوسط، وحفرت مرارًا وتكرارًا في المناطق الخاصة بقبرص.
ووسعت تركيا الشهر الماضي عمليات الحفر إلى كاستيلوريزو وهددت بالحفر بالقرب من جزيرة كريت وقبالة الساحل الليبي، وهي مناطق تدعي أنها متضمنة في اتفاق حكومة الوفاق الوطني. ويعتقد بيتشيف أن الاعتداءات التركية واليونانية الأخيرة ستظهر بشكل جزئي؛ حيث يتطلع الجانبان إلى زيادة الضغط على أمل زيادة نفوذهما التفاوضي. ولكن المشكلة هي أنه إذا استمر الطرفان في تصعيد الأمور، فقد تفلت الأمور من بين أيديهما.
وقارن الكثيرون التوترات الحالية بالوضع في منطقة إيميا/ كارداك في العام 1996، الذي ربما دخلت فيه تركيا واليونان الحرب لولا الوساطة الأميركية. وقال بيتشيف: "من دون هذا الوسيط، يمكن أن يصبح الوضع متقلبًا، ويمكن لتركيا أو اليونان تجاوز حافة الهاوية".
في يوم الأربعاء قبل الماضي، أجرى الرئيس الأميركي دونالد ترامب محادثات مع قادة الدولتين وناقش، حسب ما ورد، قضايا شرق البحر المتوسط. لكننا لا نعرف بعد ما إذا كانت هذه المحاولة ستؤتي ثمارها من حيث تهدئة الأجواء.
وفي ليبيا، تراجع الخصمان الرئيسان؛ حكومة الوفاق الوطني والجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، عن حافة الهاوية بعد إعلان وقف إطلاق النار نهاية الأسبوع قبل الماضي. وهكذا، ضمن تدخل تركيا بقاء اتفاق حكومة الوفاق الوطني، ووسّع مطالبها بشرق المتوسط، ودافع بنجاح عن طرابلس ودفع قوات حفتر إلى التراجع، وربما مكّن الشركات التركية من استئناف عقود بمليارات الدولارات.
وقال بيتشيف عن ذلك: "في الوقت الحالي، فازت تركيا وأصبحت مصدر قوة بالنسبة لأردوغان".
ويبدو أن كل هذه العدوانية الحازمة تؤتي ثمارها بالفعل؛ حيث يُقدر حجم اكتشاف تركيا للغاز في البحر الأسود بنحو 320 مليار متر مكعب، وهو أكبر اكتشاف للطاقة على الإطلاق في البلاد، ويعد كذلك من بين أكبر 25 اكتشافًا هيدروكربونيًا بحريًا في العالم، على الرغم من أنه أصغر من حقل ليفياثان الإسرائيلي، بحوالي 450 مليار متر مكعب، وحقل ظهر المصري، الذي يقدر مخزونه بنحو 850 مليار متر مكعب.
وقال بيتشيف: "الأمر يعتمد بعد ذلك حقاً على تكلفة استخراج الغاز وتسويقه"، مشيرًا إلى وجود وفرة عالمية وانخفاض أسعار الهيدروكربونات، فضلاً عن تراجع السوق بسبب الوباء. وتساءل بيتشيف: "هل سيكون الغاز منافسًا للموردين الآخرين؟".
وفي سورية، امتنعت تركيا عن الدخول في مواجهة مباشرة مع قوات الرئيس بشار الأسد المدعومة من روسيا، جزئياً لأن تركيا تعتمد على الطاقة الروسية. لكن اكتشاف البحر الأسود، خاصة إذا أدى إلى مزيد من الاكتشافات ووسعت تركيا بنيتها التحتية للطاقة، يمنح أردوغان نفوذاً أكبر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويداً أقوى في محادثات شرق البحر المتوسط المحتملة.
وقال بيتشيف: "في المستقبل، إذا قررت تركيا العودة إلى طاولة المفاوضات، أعتقد أن هذا الاكتشاف يتيح لأردوغان مجالًا أكبر للمناورة والحفاظ على ماء وجهه. سوف تمتلك تركيا حينها ورقة مساومة إضافية في مواجهة الروس، ومع الموردين الآخرين أيضاً".
وقد يشجع الاكتشاف أنقرة في مسارح أخرى. وعلى الرغم من وقف إطلاق النار في ليبيا، يتوقع بيتشيف أن تواصل تركيا وحكومة الوفاق الوطني الضغط حول مدينة سرت الساحلية الرئيسية وقاعدة الجفرة الجوية، حتى لو كان ذلك فقط للحصول على تنازلات من الجيش الوطني الليبي في أي قرار سياسي.
من جهتها، سعت ألمانيا إلى التوسط في محادثات ليبيا، من أجل دفع الجهات الفاعلة الرئيسية نحو إيجاد حل. وكما هو الحال مع التوترات بين تركيا واليونان، يتوقع بيتشيف مشاركة ضئيلة من الولايات المتحدة في ليبيا.
وقال: "أصبح نظام صنع القرار في واشنطن معطلاً الآن أكثر من أي وقت مضى"، مشيرًا إلى عدم قيام الولايات المتحدة بفرض عقوبات على تركيا لشراء أنظمة الدفاع الصاروخي روسية الصنع "إس 400".
وأضاف بيتشيف: "يراهن أردوغان على أنه يمكن أن يفلت من العقاب بمجرد التحدث إلى البيت الأبيض، وحتى الآن نجحت هذه الطريقة معه".
وقد تغير فرنسا قريبًا خطة أردوغان لأنها تتحمل، إلى جانب إيطاليا -القوة الاستعمارية السابقة في ليبيا- بعض المسؤولية عن عدم الاستقرار الحالي هناك، وفقًا لمراسل تركيا السابق لصحيفة "لوموند" الفرنسية، غيوم بيرييه، الذي أشار إلى قيادة فرنسا لحملة الناتو في العام 2011 للإطاحة بالديكتاتور الليبي معمر القذافي.
وكانت إحدى المبادرات الدبلوماسية الأولى للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد توليه منصبه في العام 2017 هي دعوة حفتر وزعيم حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، إلى فرنسا.
وقد فشلت تلك المحادثات، لكن ماكرون يتطلع الآن إلى التوسط مرة أخرى، ويدعو السراج إلى باريس لإجراء محادثات، ويقال إنه حصل على رد إيجابي.
وقال بيرييه لموقع (أحوال تركية) في تدوينة صوتية: "لقد انحازت الحكومة الفرنسية إلى الإمارات في سياستها تجاه ليبيا ومعظم المواقف المتوسطية التي تتخذها الآن. لكننا سنرى. لن أتفاجأ إذا حاولت فرنسا إيجاد حل بينهما للتصالح أكثر مع تركيا".
وسيكون من شأن ذلك أن يؤكد النفوذ الكبير لتركيا في ليبيا، الذي يتردد صداه في سورية. وذكرت صحيفة "ميدل إيست مونيتور" مؤخراً، أن ست قوافل عسكرية تركية تحركت إلى محافظة إدلب في الأيام الأخيرة، على الأرجح لردع هجوم قد تشنه قوات الأسد المدعومة من روسيا والحفاظ على وقف هش لإطلاق النار ما يزال صامداً منذ آذار (مارس) الماضي.
وقال بيتشيف: "أظهرت تركيا قوتها وحصلت على النتيجة التي أرادتها في إدلب"، ويتوقع أن تحتفظ أنقرة بالأراضي التي تسيطر عليها هناك وفي عفرين وشمال شرق سورية وتدمجها ببطء في الأراضي التركية. كما دخلت الدولة التركية في مشاريع للبنية التحتية والمستشفيات والمدارس. وقد رأينا مناطق تتحول إلى التعامل بالليرة التركية، حتى أنها أصبحت أجزاء من تركيا، ولا تختلف عن شمال قبرص".
تعمل الأراضي المحتلة في سورية على توسيع حدود تركيا واقتصادها وتوفر حماية أكبر من قوات سورية الديمقراطية التابعة لحزب العمال الكردستاني المحظور، الذي يشن تمرداً في تركيا منذ عقود.
إضافة إلى ذلك، وفي حال تم التوصل إلى تسوية شاملة بشأن الحرب السورية، فمن المؤكد أن تركيا ستستخدم هذه الأراضي كورقة مساومة للحصول على تنازلات من الأسد، وفقًا لبتيشيف.
في الأيام الأولى للحرب السورية، تعهد أردوغان بالتخلص من الأسد. وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، عندما شنت تركيا هجومها في شمال شرق سورية، تعهد أردوغان بالقضاء على جيب روجافا الكردي وقوات سورية الديمقراطية وتوطين ما يصل إلى مليوني لاجئ في شمال شرق سورية. وأقر بيتشيف بأن أنقرة فشلت في تحقيق هذه الأهداف أيضاً.
وأضاف: "ولكن، في نطاق الأهداف بين الهزيمة الحقيقية والنصر الكامل، هناك الكثير من درجات اللون الرمادي، وقد بذلت تركيا قصارى جهدها لاحتواء الحركة القومية الكردية والاحتفاظ بنفوذ كافٍ على الاقتصاد والسياسة والأمن من أجل ممارسة الضغط".
ويبدو أن تركيا تتبع نهجًا مشابهًا في ليبيا وشرق البحر الأبيض المتوسط، باستخدام الأدوات المتاحة لديها لتحقيق مكاسب، على الرغم من عدم قدرتها على تحقيق أهدافها الأساسية.
وقال بيتشيف: "ربما لا تستطيع تركيا الحصول على ما تريده بنسبة 100 بالمائة، لكن لديها القوة الكافية لإفساد خطط الطرف الآخر وفرض حالة من الجمود، بشكل جزئي من خلال القوة العسكرية والوسائل القانونية".

اضافة اعلان

*كاتب وصحفي مختص بالشأن التركي، وخصوصاً أكراد تركيا.