سياسة الكلمات المتقاطعة

في سورية قتال ودمار، وعشرات الفصائل والجيوش والمقاتلين جاؤوا من كل زوايا الدنيا. الصراع الدائر تموله قوى إقليمية ودولية لها مصالح وأطماع وثارات. خريطة المتصارعين والداعمين، وأهدافهم ومصالحهم، تشبه لعبة الكلمات المتقاطعة، فجميع الكيانات مدعومة تمويلا وتسليحا وتدريبا من قبل جهات متعددة. بعض الجماعات تحظى برعاية استثنائية وتتقاطع مصالح الفرقاء حولها. في المشهد مجموعات مركزية يراهن عليها الجميع، والبعض يصعب الفصل بينها وبين رعاتها.اضافة اعلان
التكليف الذي أعطي للأردن لتنسق قائمة المجموعات الإرهابية، وانعقاد مؤتمر الرياض للفرقاء بتوقيت سابق على  الموعد المعلن بأيام، واعتراض روسيا وإيران على مشاركة البعض وتجاهل آخرين، أمور تكشف عن حجم التعقيد. محاولات الجهات الداعمة تأهيل بعض المجموعات لكي تخرج من دائرة المجموعات الإرهابية إلى مجموعات المقاتلين من أجل الحرية، مثال آخر على حجم التشابك والتعقيد اللذين يسودان المشهد السوري والمسرح العالمي.
من بين دول الإقليم، كان الأردن البلد الأول الذي أعلن أنه سيقف في وجه الإرهاب ويحارب التطرف. وبالرغم من هذا الاستعداد الذي حظي بتقدير عالمي، فقد ظلت التدخلات الدولية محدودة النطاق وضعيفة التأثير. فالبيانات التي أدلى بها الساسة وقادة الأحلاف جعلت الناس يتوقعون نهاية درامية لتنظيم "داعش" في غضون أيام أو أسابيع، الأمر الذي لم يحصل حتى اليوم.
وبالرغم من قناعة الكثيرين بصعوبة تحقيق القضاء على "داعش" من دون إخلاص الأطراف كافة في مساعيها، وتوقف الدعم الذي تقدمه الجهات التي ترى في وجود التنظيم مصلحة سياسة لها، فإن الأردن نجح بدرجة كبيرة في الحيلولة دون وصول "داعش" إلى حدوده ناهيك عن اختراقها.
وفي الوقت الذي نجح فيه الأردن في وقف تمدد الجماعات الإرهابية وحفظ البلاد من أخطارها، فإنه يبقى الكثير من إجراءاته الوقائية والبنائية والتحصينية بحاجة إلى مغادرة مربع العموميات، وإلى الكثير من التنسيق. فعلى شاشة التلفزيون الأردني تبث ومضات يقال إنها توعوية، يظهر فيها شخص لا يختلف في مظهره عن الذين نشاهدهم في صفوف "داعش"، يتلو موعظة بعد لقطات يفهم منها أن على الشباب أن لا يتبعوا المتطرفين، بل عليهم اتباع النموذج المعتدل الذي يمثله هو بعدما قال ما قال.
جل ما قامت به أغلب مؤسساتنا ومفكرينا يتمحور حول الحديث عن المناهج المدرسية من دون القيام بشيء يذكر، أو التوجه لخطباء المساجد لهم بعض التعميمات والتوجيهات التي لا تغير شيئا في المحتوى ولا الموضوع.
المحتوى التعليمي للمناهج يقدم بأساليب خالية من المتعة، وفي بيئة فيها من التشدد والشك ما يدفع بالكثير من الطلبة إلى تمنى الخلاص من المدرسة و"إرهابها". فالبيئة المدرسية أصبحت تعيش حالة من الترقب لبيانات القائمين عليها، تارة حول الامتحان، وتارة حول إلغاء التخصصات، وأخرى حول عدم الحاجة للجامعات، وكذلك عند إعلان أن أكثر من 60 % لم يحالفهم الحظ "وكأن النجاح نتاج لسحب اليانصيب".
المنهاج المدرسي يحتاج إلى إغناء بخبرات جديدة، تتوجه لبناء الشخصية. فإلى جانب العلوم والآداب، يحتاج طلبتنا إلى مزيد من الرياضة، وجرعة أكبر من مناهج الفن والموسيقى والمسرح، وساعات أكثر في خدمة المجتمع، والبحوث التطبيقية في البيئة والمجتمع.
استمرار التفتيش في الدفاتر القديمة، والبحث في محتوى المواد التعليمية، واستدعاء خطباء المساجد لندوات، لا يشكل استراتيجية لتحصين الجيل. الجيل يحصن عندما يشعر بكرامته الإنسانية، ويأمن على مستقبله، ويعيش تجربة مدرسية ممتعة؛ فيها آداب وعلوم وفنون وخبرات تتوجه إلى جوانب شخصيته الجسدية والروحية والاجتماعية والعقلية والنفسية.
حماية المجتمع والتعلق بالحياة ومحاربة التطرف، لا تتحقق بالوعظ. هي تتحقق بتغيرات جوهرية في الطريقة التي نعد بها الأبناء للحياة، وكيفية معاملتهم واحترام كرامتهم الإنسانية، وإعطائهم أملا في العمل والفرص والنجاح.