سياسة عفوية وصادمة

ماذا يقول الناس، وكيف يعبرون عن مواقفهم حول الحكومة المحاصرة بالأوضاع الاقتصادية والبرلمان الحائر، عن غلاء الأسعار، عن أزمات التعليم والجامعات وعن مدى الإدراك العام لحجم الأزمة الاقتصادية القائمة والقادمة؛ وعن الهزيمة المرّة لمسار التفاوض والإحباط السياسي الإقليمي والدولي؟ في التفاصيل ثمة سياسة صامتة تبدو في الثقافة الشعبية وفي السلوك العام واليومي للناس، وهي تفاصيل لا يمكن أن تكشفها استطلاعات الرأي العام ولا الدراسات ولا الاستعراض الإعلامي.
الشعور العام للناس تعبر عنه بصدق وبساطة الحياة اليومية بممارسة سياسية صامتة أو اللامبالاة التي تعبر أحيانا عن نقمة دفينة أو فجوة معرفة. وفي الحالتين تكشف التعبيرات السياسية في الثقافة الشعبية عن حجم إفلاس وسائل الإعلام وضعفها وتداعي وضعف النخب على هوامشها، حينما يعجز النظام الإعلامي عن نقل الرسائل بين مختلف المستويات تبرز أنماط من السياسة العفوية والتعبيرات وربما الممارسات الصادمة التي قد لا يقدر أحد على توقعها.  

اضافة اعلان


يغلب على الثقافة الشعبية طابعها الشفوي والعفوي، وعادة ما تجسد هذه الثقافة خلاصة تجارب المجتمعات المحلية في نواحي الحياة المختلفة. ولا تعني شفوية الثقافة أنها مجرد "حكي"، أو وقوعها في دائرة السطحية والبساطة؛ الثقافة الشعبية في حقيقة الأمر تعبر عن خلاصة تجارب اجتماعية عميقة، وعن خبرة هذه المجتمعات في علاقاتها مع الآخرين والبيئة والتاريخ، وتعبر أيضا عن خلاصة موقف سياسي عميق ومدهش قد يتم اختصاره على شكل نكتة سياسية أو قول مقتضب أو مثل شعبي يختصر ويتجاوز ربما مناهج علمية في تحليل الوقائع والأحداث وتبدو قيمتها الحقيقية في أوقات الأزمات والظروف الحرجة.

إن أهم قانون للتغير الاجتماعي والثقافي هو الانطلاق من الخصوصية الإيجابية، من رواية الناس حول ذاتهم قبل رواية الآخرين، وهنا تبدو قيمة الحكمة في فتح منابر التعبير أمام الناس وحتى ولو كان التعبير يفتقد للحكمة أحيانا.

توجد مشكلة حقيقية في الثقافة السياسية السائدة في الأردن، أخذت تتضح منذ بدايات التحول نحو الديمقراطية العام 1989، وتتمثل في ابتعاد خطاب الإصلاح والتنمية السياسية وجهود نشر ثقافة حقوق الإنسان، عن واقع الناس المعاش وتحديداً في المحافظات الأردنية، أي أن الثقافة التي تحاول أن تنشر بذور التحول الديمقراطي قُدمت للناس بطرق ومضامين بعيدة عن تجارب وخبرات وتراث مجتمعاتهم، لذا طالما تعاملت معها هذه المجتمعات بأدنى درجات الجدية أو الاهتمام، الأمر الذي نلمسه في تواضع استعداد المواطنين لممارسة المشاركة السياسية بأدواتها المعاصرة التي تسهم في بناء مجتمع ديمقراطي على المستوى الوطني، على الرغم من أن أعلى نسب الذين يذهبون إلى صناديق الاقتراع من هناك، وهم أكثر فئات المجتمع ضعفا في ممارسة السياسة والضغط، وبناء التحالفات للوصول إلى المصالح، بينما تسود سيطرة الأشكال التقليدية في الممارسة السياسية وعلى رأسها هيمنة العلاقات القرابية، وسيطرة القبائل والعشائر على السياسة المحلية، والتعبيرات العنيفة في التعبير عن المطالب.

ثمة سياسة صامتة وصادمة أقوى من ضجيج وسائل الإعلام، وتقول كلاما بليغا وحكيما وقاسيا أحيانا في القرى والحارات البعيدة، وعلى أبواب الدكاكين في عشوائيات المدن.

    [email protected]