سيرة شعرية مليونية.. ماذا بقي من تغريبة بني هلال؟

Untitled-2
Untitled-2

عما ن - تثير تغريبة بني هلال من بلاد نجد إلى تونس اهتمامات الباحثين في المأثورات والسير الشعبية وتتعرض لجوانب إنسانية نظرًا لغناها الفني بشخصيات وأحداث تضفي على الأدب الشعبي لونًا خاصًا يمثل الحياة الاجتماعية والفكرية العربية.اضافة اعلان
وتتميز التغريبة الشعرية بطول أبياتها -التي تفوق المليون عن غيرها- من السير العربية مثل سيرة الملك سيف بن ذي يزن وعنتر بن شداد والظاهر بيبرس والأميرة ذات الهمة وعلي الزيبق، وهي كلها تمجد البطولة والشجاعة والمثل العليا والقدرة على تجاوز الواقع نحو آفاق جديدة.
ينتسب بنو هلال إلى هلال بن عامر، وهم قبيلة عربية هوازنية قيسية مُضرية عدنانية سكنت قبل هجرتها من الجزيرة العربية إلى الشام ثم صعيد مصر ومنه إلى شمال أفريقيا بجوار أبناء عمومتها من القبائل القيسية، مثل "سُليم" و"هوازن" و"عامر"، بلادَ الحجاز ونجد حيث الأرض صحراوية جافة تكتنفها حمم بركانية بازلتية سوداء، تقوم الحياة فيها على آبار قليلة مترامية وبعض الأمطار.
وكانت تلك القبائل تتحكم في الطريق إلى المدينة وشعاب نجد والسبل المؤدية إلى الخليج، حتى آثر يهود المدينة وتجار مكة التحالف معهم طوال العصر الجاهلي تقريبًا.
وأمحلت نجد وأجدبت فترات كثيرة، واضطُرت تلك القبائل للتنقل والترحل بحثًا عن المرعى، لكن هضاب نجد البركانية السوداء ظلت هي الوطن والمآل الذي اكتسبت منه صفاتها الأصيلة، مما طبع هؤلاء النجديين من هلال وسليم وغيرهما بطابعه البدوي العنيف، وتعبّر مناصرتهم للقرامطة عن نزوعهم نحو العنف والتمرد.
عُرفت هذه القبائل بطبيعتها المحاربة وصراعاتها القبلية وهجراتها الطويلة وأحلافها، وألفت تلك القبائل النجدية جناحا مهمًّا في الحلف الشمالى العدناني القيسي في نزاعهم مع عرب الجنوب القحطانيين واشتهرت كل قبيلة منها بأيامها وفرسانها وتراثها القبلي.
وانضوى بنو هلال في هذا النزاع في الحلف القيسي المكوَّن من سُليم وعامر وهوازن في محاربة عرب الجنوب اليمانيين. ولم تكن تلك القبائل النجدية القيسية تشكل أحلافًا لها معها تاريخ قبلي مشترك فحسب، بل كونت حاضنة قبلية مختلفة ومتمايزة عن غيرها، وكانت لهم لهجة دارجة يتفاهمون بها في حياتهم اليومية لم تتوفر لها مدونات، وإن كانت تظهر في قراءات القرآن الكريم إلى جانب الفصحى التي شكلت لغة أدبية.
ولاحظ باحثون أن بدو بني سليم كانوا لا يقفون على السكون، بل يبيحونه في كلامهم ولو كان في صدر أو بطن الجملة، وأن المفردات التي ينطقون بها فصيحة أو تنحدر من جذر فصيح، وأن الاختلاط بين تلك القبائل وبين السكان الأصليين أدى لديهم إلى تحول في النطق للتسهيل ولظروف اقتضتها الملاءمة الحياتية بين اللهجات.
اشتهر الحلف القيسي في أيام العرب زمن الجاهلية بحروبه الطويلة مع عرب الجنوب، إلى جانب نزاعاتهم وحروبهم الكثيرة فيما بينهم، وكانوا وثنيين مخلصين لآلهتهم مثل أصنام ذي الخلصة وخثعم وبجيلة.
ولما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام عادته بعض القبائل الشمالية بشدة رغم قرابتهم له، ومن دخل الإسلام في حياة النبي نكث عهده بعد ذلك وانضم إلى حركة الردة التي فشت في جزيرة العرب، لكنهم هُزِموا لاحقاً وعادوا إلى الإسلام.
وبعد فتح مصر عام 641 للهجرة، شعر الأمويون الذين ينتمون أيضًا إلى القبائل القيسية بغلبة العنصر السّبئي اليمني على الجيش العربي وجنوده الذين استقروا في الفسطاط، حيث كانت معظم القبائل التي تكون منها جيش الفتح قحطانية يمنية.
واقترح متولّي خَراج مصر على الخليفة هشام بن عبد الملك استقدام قبائل قيسية لإحداث توازن داخل الجيش، وفي العام الهجري 109 بدأت هجرة قيس الكبرى إلى مصر وظلوا ينتقلون إليها مع أحلافهم وأبناء عمومتهم.
ثم جاء عهد الخليفة الفاطمي العزيز بالله الذي استقدم بعض القيسية باتجاه صعيد مصر والعدوة الشرقية، وكانت موجة هجرة القيسيين إلى مصر في عهده من أقوى الهجرات العربية التي سلكت ديار الشام ثم استقرت في الإقليم الشرقي عبر الطريق الذي عرف كثيرًا من الهجرات وكانت تسكنه بطون منهم منذ العصر الأموي، لكنهم ما لبثوا أن أثاروا القلاقل وأغاروا على قرى الدلتا للنهب، وسرعان ما ضاق الخليفة بما سببوه من خراب فطردهم إلى صعيد مصر.
ثارت بلاد المغرب على الحكم الفاطمي، وخلع ملك صنهاجة المعز بن باديس طاعة الفاطميين متحولا إلى الخليفة العباسي، وفي الوقت ذاته كانت في مصر قبائل بني هلال وبطن من سليم خؤولته من هلال.
وأشار وزير البلاط الفاطمي الحسن بن علي اليازوري باصطناعهم وتوليتهم أعمال أفريقيا، ودفعهم إلى حرب صنهاجة، فهزمت هاتان القبيلتان ابن باديس ووصلتا تونس وحاصرتا القيروان، واقتسمتا بلاد أفريقيا فأخذت سُليم صحراء طرابلس بينما أخذ بنو هلال تونس وغربها.
وسجّل ابن خلدون تلك الهجرة الكبرى نحو شمال أفريقيا في باب بعنوان "الخبر عن دخول العرب من بني هلال وسليم المغرب" وقال "لما جاز بنو هلال وبنو سليم إلى أفريقية والمغرب منذ أول المئة الخامسة وتمرسوا بها لثلاثمئة وخمسين سنة، فقد لحق بها وعادت بسائطها خراباً كلها بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمرانا تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمَدر".
برزت التغريبة الهلالية من نجد لشمال أفريقيا كعلامة فارقة في أشعار البدو القيسيين، وتروي قصة خروج شعب صحراوي بحثًا عن الكلأ، لكنها استمرت قرنًا أو يزيد، وخلّفت تراثا أدبيا شعبيًا من ملاحم وسِير وأشعار وأبطال أسطوريين.
وما تزال الذاكرة الشعبية تحفل بأسماء أبطال التغريبة (أبو زيد الهلالي ويونس ودياب بن غانم) بجانب بطولات نساء رافقن هذه التغريبة (الجازية الشريفة وعزيزة الهلالية وخضرة الشريفة والدة أبي زيد وشقيقته شيحة)، واحتلت فيها المرأة مكانة اجتماعية، وعبرت من خلال الحكاية الشعبية عن حضورها البطولي.
وارتبطت التغريبة بأشعار بدت إرهاصًا لميلاد شعر شعبي بدوي، واختلط بنو هلال وسُليم مع قبائل بربرية وأمازيغية كبرى مثل صنهاجة وكتامة ولواتة وهُوّارة، واندمجت بعض قبائل قيس التي ارتحلت إلى المغرب وظلت هناك، وعاد بعضها إلى المشرق وعرفوا بالعرب "المغاربة" الذين نزلوا ليبيا ومصر منذ أوائل القرن الثامن عشر، فسكنوا الجانب الغربي من النيل وضفاف بحر يوسف من أسيوط إلى الفيوم قبل الحملة الفرنسية بقرن تقريبًا.
بالإضافة إلى دورهم في الدعوة للإسلام، ربط الهلاليون المغرب بالمشرق لغة وسكانا. فعرب المغرب قبل الهلاليين كانوا قلة مستقرة في الحواضر، وغلبت الأمازيغية على السكان فجاء الهلاليون بأعدادهم الهائلة وانتشروا وعربوا البلاد.
وأدت كثرة الهلاليين وانتشارهم إلى غلبة لِسانهم على غيره من ألسنة العرب، فشاعت لهجتهم بالجزيرة العربية والشام ومصر والمغرب، ولعبت دورا في بزوغ لهجات دارجة كاللهجة المصرية.
وتُمثل لهجة هلال مستودع كلام العرب، وهي لهجة بدوية لها قاموس عربي ضخم يعود لما قبل الإسلام بقرون، لم تتحَضَّر وبقيت راسخة في بداوتها.
وإذا كانت مسيرة بني هلال مع الأمة والرسالة الإسلامية بدأت بأم المؤمنين زينب بنت خزيمة (الهلالية) وأم المؤمنين ميمونة بنت الحارث (الهلالية) رضي الله عنهما، فإنها لم تنته بأسد الصحراء عمر المختار (الهلالي) رحمه الله. - (الجزيرة نت)