سيكوباتي

في العام 2005 قرر الصحفي المقدوني (فلادو تانيسكي) تغيير نشاطه الصحفي الذي امتد على مدار عشرين عاما من قضايا التعليم والشأن الحكومي والانتقال الى صحيفة نوفا ماكدونيا لتغطية عالم الجريمة، لم يتوقع أحد نجاح الصحفي المعروف بهدوئه في هذا المسار الجديد حيث الانتقال من الاخبار الاكاديمية او الناعمة الى قطاع إخباري مليء بالعنف والدموية، ولكن في 2005 قلب تانيسكي كل التوقعات عندما بدأ بمطاردة خيوط جريمة بشعة لسيدة ستينية بائسة كانت ضحية لجزار متوحش، لقد تحولت القضية الى رأي عام تابع فيها الجماهير التفاصيل الدقيقة التي تركت بنهاية مفتوحة فالقاتل طليق وكل هذه الوحشية المصبوبة في أعمدة الصحيفة قابلة للتكرار من جديد، لقد نجح الصحفي الهادئ في كسب الرهان ليكون اهم صحفيي مدينة كيتشيفو المقدونية.اضافة اعلان
لم تتوقف الأمور عند هذه النقطة بل كما توقع الجمهور المرعوب والمتابع تحولت الضحية الى سلسلة وبات القاتل سفاحا متسلسلا بعد أن بدأت تتوارد انباء عن اختفاء عاملة النظافة الخمسينية (لوبيكا ليكوسكا) لتوجد مقتولة بطريقة دموية تكفل النجم الصحفي بسرد تفاصيلها بطريقة سينمائية مبهرة جعلته صحفي الحوادث الأول بلا منازع، واثناء سرده للتفاصيل الدقيقة تحدث بلا وعي عن استخدام القاتل لسلك الهاتف لتقييد الضحية وذكر أن نفس السلك تُرك على مسرح الجريمة من قبل القاتل، لم تكن هذه المعلومة قد نشرت في التقرير الجنائي للجريمة، مما أثار الشك حول تمرير القاتل للمعلومات للكاتب الصحفي والذي بدوره يخفي هذه العلاقة ولا يرغب بكشفها، لكن تبين الأسوأ اثناء تحليل الحمض النووي للكاتب تبين تطابقه مع ادلة مسرح الجريمة، نعم لقد ثبت ان السفاح هو ذاته الكاتب الصحفي الذي يروي حكاياته بنفسه.
وغداة اتهامه رسميا بقتل ثلاث نساء على الأقل بوحشية في جرائم كتب عنها بنفسه بإسهاب في الصحف المحلية انتحر تانيسكي بوضع رأسه في دلو ممتلئ بالمياه في زنزانته واضعاً نهاية سلسلته بيده.
ولعل اقرب انماط السلوك النفسي المرضي لهذا الوصف هو ما يعرف بالشخصية (السيكوباتية) حيث يفتقر فيها هذا الشخص إلى الضمير ولا يملك مشاعر التعاطف والشعور بالذنب أو الندم، كما أنه يحترف التلاعب والخداع فيتمكن بسهولة من الغش والكذب ويكون نمط حياته طفيليا، فيعتمد في حياته بالكامل على شخص آخر يستطيع أن يقوم بدلاً منه بمسؤولياته ومهامه، فيحاول طوال الوقت استخدام الآخرين لتحقيق مصالحه.
ما يلفت ان هذا المرض لم يعد فردياً بل بات يشكل اسلوب حياة ويمكن رصد استخدامه في اكثر من مكان، فمثلاً عند مراجعة من طالبوا بعفو عام، أو عند تغطية قنوات اخبارية لأخبار تنظيمات ارهابية بإسهاب مثلاً.
يعتبر قتل القتيل والسير في جنازته واحدا من ابشع دروس الحياة وأهمها في ذات الوقت، وفي العبرة التي تصدرت القرآن في سورة البقرة وضعت هذه الحكمة كاستهلال حيث يتبين في السردية أن القاتل هو اكثر من لطم حزنا على المقتول، فيما يلخص العبقري اريك فروم هذا السلوك البشري المتوحش في كتابه (جوهر الإنسان) تحت عنوان (متلازمة الانحلال) والتي تقوم على ثلاثية حب الموت والنرجسية والتثبيت السفاحي التعايشي، وباجتماعها معا في نفس واحدة تنتج المسخ البشري الذي يتلذذ بالتدمير لأجل التدمير والكره لأجل الكراهية. ولمواجهة هذا المسخ وضع ثلاثية التنمية والانسانية والاستقلالية، هكذا نهزم هؤلاء المسوخ البشرية الذين كما يبدو لم يعودوا مجرد حالات فردية.