سيناريو للجيل Z

سأحاول أن أتابع مقالة الأمس محاولا تقدير سيناريو للجيل Z الذي ولد في الألفية الثالثة عندما يبدأ يهيمن على التخطيط والقيادة للسياسات والأعمال والمصالح .. وسأحاول ما استطعت تجنب التكرار مما قدمته في الغد من قبل على مدى السنوات الماضية عن تأملات وتوقعات جيلنا الحاضر، والذي أعتقد أنه جيل فريد في تجاربه ومشاهداته، وربما لا يشبهه جيل آخر في تاريخ البشرية! ولا بأس بتكرار القول إن الحكمة مثل بومة منيرفا لا تحلق إلا في الغسق؛ أي لا تظهر إلا بعد انقضاء الأحداث، ولكن تظل ضرورة قصوى للبحث والتأمل حتى وإن لم تنشئ اتجاهات واستعدادات واقعية، فالرائد لا يكذب أهله!اضافة اعلان
إن العواصم الكبرى والمدن الهائلة لم تظهر كما نعلم إلا في الحضارة الصناعية والدول المركزية التي صحبتها، ولم تكن تمثل مصلحة اجتماعية أو اقتصادية كبرى، لكنها تعكس أدوات التنظيم المركزية، وبما أنها ادوات تتلاشى فإن الدول تعود كما كانت أقرب إلى فيدراليات المدن، فلم يعد ثمة حاجة لهذه المدن العملاقة ولم يعد يريدها أحد. وفي انسحاب المجموعات والمؤسسات المهيمنة على الموارد والمجتمعات من التزاماتها التنظيمية والتمويلية معتقدة أنها تقلل التكاليف والجهود فإنها بطبيعة الحال تترك الأفراد والجماعات ليعيدوا تشكيل أنفسهم وأعمالهم ومواردهم بعيدا عنها، هذه الفوضى وإن خسر الناس في ظلها أعمالهم ومدنهم وحياتهم هي أيضا تخفي النخب والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمية.
كانت الحضارة الصناعية المعاصرة تحولا من الشمول إلى الانتظام، ومن الخضوع للدين إلى الخضوع للقانون والسلطة السياسية، وفي ذلك أنشئت المدن وأنظمة العمل والتمويل لصالح التحالف الجديد من السياسيين والصناعيين والبنوك، واليوم وقد فقدت النخب المهيمنة القدرة (والرغبة أيضا) على الاحتفاظ بالمدن والأسواق والمؤسسات وتظن أن في مقدورها أن تخرج من المجتمعات، لكن ذلك لن يكون سوى لعب في الوقت الضائع، لأن الأمم والمجتمعات في بحثها عن الفرص الجديدة تتحول إلى كائنات وحضارة معلوماتية، تنشئ عالمها وأسواقها ومواردها، .. وقادتها ونخبها أيضا.
يقول لويس ممفورد إن المتخصصين في هندسة الطرق والقائمين على المدن وقعوا تحت تأثير الإقبال الشديد على استعمال السيارة الخاصة، وشعروا بأن الواجب يقتضيهم معاونة شركات صناعات السيارات على الازدهار حتى لو كانت النتيجة هي الفوضى وتعطيل جميع أساليب النقل المختلفة اللازمة لنظام صالح، وقصروا وسائلنا على السيارة الخاصة على حين أنهم كدسوا في المدن سكانا لا تستطيع السيارات الخاصة أن تفي بخدماتهم ما لم تدبر المدن ذاتها لتهيئة المجال اللازم لحركة السيارات وتخزينها. وتحولت الضواحي من مبان قائمة في وسط الحدائق إلى مبان قائمة في ساحات مواقف السيارات. وبذلك خسرت الضواحي ميزتها الوحيدة، إذ إنها نشأت حول المدن أو قريبا منها بدافع اعتزال الناس مثل راهب والعيش مثل أمير مع القدرة على التمتع بمزايا المدينة.
سوف تختفي المدن والأسواق والأعمال والمصالح القائمة والتي أنشأتها قدرات وضرورات سياسية وتنظيمية؛ فهذا الثبات والتماسك في تخطيط المدن والمباني والمؤسسات يعكس رغبة في عدم التغيير، لكن التقنية الجديدة متغيرة زوالية، ولم يعد ممكنا سوى التفكير في أعمال ومؤسسات ومدن قابلة للتحول والتغير والاختفاء والظهور في سرعة وبدون كلفة.
والحال أن المدن كانت في منشئها في عصور الزراعة وما حولها من دفاع وتجارة سريعة الحركة والتغير والارتحال، تكاد تكون بلا حدود، ولعلها تلائم الشبكية الصاعدة أكثر من المدن والمؤسسات المعاصرة، فقد كانت المدن تنشئ مراكز حضرية جديدة أو توسع من حدودها، وقد تغير موقعها وتنتقل إلى موقع جديد، وكان نسقها العام عبارة عن عدد وفير من المدن الصغيرة والقرى التابعة لها على اتصال لا ينقطع بالمدن المجاورة والموزعة على نطاق واسع، وكان يؤخذ بالاعتبار حاجة الناس وهم يسيرون على اقدامهم أو مع الدواب، وكان عدد السكان يتراوح بين بضعة آلاف وأربعين ألفا، وكان من الخارج عن المألوف أن يتجاوز عدد سكان المدينة مائة ألف.