سُنة.. وشيعة.. وسُلطة

حسين بني هاني

منذ قرون عدّة، لم تنج دار الإسلام، وحتى اليوم، من أزمة تشبه هذه التي نعيشها اليوم، إلا وكان السيف فيها وسيلة الفصل، وأصدق إنباءً من الكتب. ولكن المحزن أن العرب وكياناتهم، كانوا دوماً، وما يزالون، الضحية الأكبر فيها، خاصة في ظل تراث يضج بالمعاني والمصطلحات المذهبية التي حلّت محل الدين. فأولئك الذين يجدون أنفسهم اليوم في المساحة الضيقة بين الأسطورة والتاريخ، يريدون أن يجعلوا الدين لعبة بيد السياسة، خاصة حين يستبيحون النصوص، ويطوعون المعاني، لإسقاط وقائع التاريخ في جوف الشريعة.اضافة اعلان
خليط عجيب ذاك الذي نشاهده اليوم على مسارح الأمة الاسلامية؛ فذاك يخصب المذهب الشيعي في طهران، ويريد انتشاره بين أبناء الأمة بقوة السلاح، من خلال أجهزة الطرد الحزبية التابعة له، في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، وبما يكفل انشطار الأمة العربية سياسيا ومذهبيا وعرقيا، بعد أن عبرت طلائعه الهلال الخصيب، ووصلت اليمن غير السعيد هذه الأيام؛ وآخر يستخدم ذات الوسيلة لإقامة دولة الخلافة في الموصل، غير بعيد عن تلك العثمانية التي انهارت قبل قرن من الزمان.
كلاهما يشعلان نار الفتنة بين العرب، وفي كياناتهم؛ وكلاهما يعيدان إنتاج المرويات التاريخية، يخترقون بها الأزمنة والأمكنة، لصياغة تصور ديني جديد للأفراد والجماعات في علاقاتهما بالسياسة، من دون النظر إلى طرائق الحكم الحديثة. فالهدف الأسمى لديهما هو الحكم، ولو كان بحصد الرؤوس هنا، أو من خلال إعادة إنتاج موقعة صفين هناك. وأحسن الظن بالفريقين أنهما يجعلان من الإسلام العظيم، ومبادئه الإنسانية، مؤسسة للحكم فقط، معتمدين بذلك على ما جاد به التاريخ من روايات منسوبة لمن أُسبغ عليهم ثوب الطهر والقداسة.
فلا أظن أن أحدا من الفريقين حريص على الدين، أكثر من حرصه على السلطة. فهما يرتديان -إن في طهران أو الموصل أو صنعاء، وغيرها من المدن- ثوبا فضفاضا للدين، يقرآن في ظله أقوال الساسة في الولايات المتحدة وأوروبا، أكثر من قراءتهما للقرآن الكريم، ويطوعان لمصالحهما ما لم يصح من أحاديث منسوبة للنبي الكريم، تدعم خلافاتهما المذهبية، وتلبسها ثوب الشريعة، بل يتخيران من التاريخ ما يناسب رغائبهما في السلطة.
دعونا نعترف، ولو مرّة واحدة، بلغة التفكير وليس بلغة التكفير، أن خلاف المذاهب بدأ بخلاف على السلطة والإمارة، وتبرع له بعض كتبة السلاطين، كما هو حال الأمة اليوم، بأن أوجدوا له الفقه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، رغم علمهم أنه صراع على الدنيا، وليس تنافسا على الآخرة، لخصه المرجع الشيعي اللبناني محمد الحسن الأمين حين قال: "نحن سُنّة محمدية، لنا موقف سياسي من معاوية".
هذه جرأة قد لا يوافقه عليها البعض. ولكن، لماذا لا يجرؤ غيره، من علماء وحكماء الأمة، على فتح كتب التاريخ، وأخذ العبر منه، كي لا يبقى سيرة أموات يتحكمون بالأحياء، وإخضاع بعض صفحاته للبحث والتحليل من أجل وقف إزهاق أرواح الغلابى من المسلمين، السُنّة والشيعة، الذين قضى معظمهم، عبر العصور، وما يزال كثير منهم يقضي اليوم، باسم إعلاء كلمة الحق والدين، من دون أن يدري أحد منهم من أين سقطت عليه تلك الفتاوى؛ أهي من حكايا التاريخ، أم من على منابر الدين؟