(س) وأخواتها

 رسالة موجعة وردتني من امرأة أطلقت على نفسها لقب السيدة (س)، سردت حكايتها التي تتقاطع مع حكايات نساء كثيرات، تحدثت فيها بمرارة عن صدمتها الكبرى برجل راهنت عليه بعمرها كله، لدرجة أنها أقدمت على تغيير ديانتها، كي يتسنى لها الزواج به، معرضة حياتها للخطر، منبوذة من مجتمعها الصغير المحافظ، مستسلمة لقرار العشيرة بالتبرؤ منها وإعلانها خارجة عن الملة.

اضافة اعلان

ضحت بكل شيء في سبيل الحب الذي جرفها ذات صبا مبكر، لتكتشف بعد سنوات، أنجبت خلالها بنتا وولدا أصبحا الآن في مرحلة المراهقة، وبالصدفة المحضة أن رهانها على ذلك الرجل لم يكن سوى خسارة كبرى.

وجدت نفسها أمام عدة خيارات أحلاها شديد المرارة. خطر لها من فرط الجرح أن تعامله بالمثل كي تذيقه مرارة الكأس ذاتها انتقاما لكرامتها المهدورة، كذلك فكرت في لحظة يأس باللجوء إلى حضن العائلة الذي لفظها من قبل، كذلك همت في لحظة حمق بالذهاب إلى المرأة الأخرى وإشباعها ضربا حتى تعيد لها رجلها الضال!

تمنت أن تواجهه باكتشافها المثير لعله يذوب خجلا ويعلنها توبة نصوحا، فتستعيد أمان عشها الصغير الذي شيدته بالأظافر، متحدية الدنيا وقد تمسكت بصرح تبين انه كان من خيال فهوى فوق رأسها دفعة واحدة، مخلفا إياها في الخيبة تصارع مشاعر الغضب والغيرة التي تفترس الروح بلا رأفة.

ولأنها امرأة مجبولة من كبرياء واعتداد، لم تقدم على أي من تلك التصرفات الانفعالية التقليدية التي لا تغني عن كرامة ولا تستبقي ذاهبا ولا تلجأ إليها في العادة إلا نساء محدودات الذكاء.

وفي الوقت ذاته، أبت التواطؤ ضد حواسها كامرأة مجروحة في عقر كرامتها، رافضة بكل جوارحها المضي في هذا العمر برفقة رجل ملفق قادر على تضليلها إلى ذلك الحد، مواصلا ادعاءه بالهوى ومؤكدا لها انها حبه الحقيقي والوحيد على مدى السنين، غير مدرك أن أوراقه كلها أصبحت مكشوفة.

وظل على هذه الحال مطمئنا إلى مهاراته الفائقة في فنون النفاق، مصرا، شأن كثير من الرجال، على الحصول على كل شيء: وضع اجتماعي لائق بكامل عدته وعتاده من نجاح مهني وزواج مثالي قوامه زوجة رصينة أنيقة متفانية ترافقه في المناسبات الاجتماعية ويتحدث بكل فخر عن شجاعتها في تحدي العائلة.

وفي غمرة ذلك ما انفك يشير إلى حجم التضحية التي أقدمت عليها في سبيل البقاء معه يرفع رأسه عاليا بها ويشيد بحسن إدارتها للبيت ويعترف بجهدها الموصول في تنشئة أولاد يشقون طريقهم في الحياة بنجاح وتميز ويحققون أعلى العلامات في المدارس، مدعيا بكل جسارة اعتناقه جملة قيم ومثل من صدق وأمانة ووضوح.

وكان في الوقت ذاته مطمئنا إلى درجة التكتم والسرية التي تظلل مغامراته العاطفية المتأججة ولكن المتوارية في الظل بما يقيه شر المواجهة! وبما لا يهدد "برستيجه" كرجل وقور ملتزم تحظى صورته شديدة التضليل بإقرار الجميع.

تقول السيدة (س) إن اكتشافها ذاك كان نعمة حقيقية، لأنه فتح عينيها عنوة لكي تشرع في قلع شوكها بيديها رغم نزف الجراح، متيقنة أن تلك وسيلتها الوحيدة للشفاء.

نصحتها صديقة تقليدية لا تقل تواطؤا مع السائد بضرورة التجاهل وادعاء الجهل والتغابي كحل تنتهجه النساء للحفاظ على سقف يؤويهن، وأكدت لها أن الحكاية ليست أكثر من نزوة سرعان ما تنطفيْ كفقاعة.

ألحت عليها بضرورة التسامح مع ضعفه الإنساني، لأنه سيعود إليها في النهاية، وبشّرتها بأنها المنتصرة في نهاية المطاف، وأشارت عليها كإجراء احتياطي باللجوء إلى احد العرافين لربطه بسحر لا يقوى على الفكاك منه يجعله لا يرى في الدنيا سواها!

لم تشأ (س) طرح سؤال جوهري رغم انه يطرح نفسه بقوة حول مدى التسامح الذي يبديه الرجل لو وجد نفسه في وضع مماثل! وهو المزود بالعذر المخفف الذي يبيح له القتل انتقاما لشبهة إهدار كرامته.

مضت (س) مكرهة ولكن منتصرة لكرامتها الجريح إلى حيث ابغض الحلال واقتادت حبيب العمر إلى المحكمة حيث خلعته كما تخلع خاتمها، فيما قلبها يردد بكل الوجع الممكن: أما أنا فلا اخلع صاحبي!

[email protected]