"شباب كوليسترول"!

كلُّ ما كنتُ أعرفه عن "الكوليسترول" أنَّه مادَّةٌ "مكروهٌ" تواجدها في الجسم. توصَّلتُ بيُسْر إلى ذلك من النشرات الدعائية الكثيفة التي تضَعُ أصنافاً متنوِّعَة من الطعام على مائدة متماسكة أمام عائلة مُخْتَصَرَة تظهر عليها ملامح الصحة والصفاء، ثمَّ يُكتبُ، في ختام دقيقتين من الصخب، باللون الذهبيِّ لدرء شُبْهة سيِّئة الصيت "خال من الكوليسترول"!اضافة اعلان
ومنذُ شهر وأكثر لم أكن مُكترثاً بذلك التحذير "الذهبيِّ"، حتى ذهبْتُ إلى الطبيب لأمر بعيدٍ تماماً عن سيرة الدهون والزيوت واللحوم الحمراء..؛ أمرٌ يتعلق بوضوح بالوسامة التي أفتقدها، ولأنَّ نصيبي منها محدودٌ جدا، فقد صرَفَ لي الطبيبُ دواءً ثقيلاً، لكنَّه استدركَ لما ارتابَ بشأن يتعلقُ في بدانتي الطارئة، فقد طلب منِّي بداية إجراءَ فحص للدم، ذهبتُ إليه بثقة زائدة انتكسَتْ تدريجياً، لما أدركتُ بشكل متتابع أنَّني سأغادرُ موائدَ العائلة والأصدقاء، وحتى "موائد الرحمن"؛ لأنّني لم أعُدْ خاليا تماما من "الكوليسترول"!
انتابتني "فوبيا" سريعة قادَتْني بعجلة إلى المكتب، لأنتهز أول فرصة جلوس أمام الحاسوب، وأكتبَ بأصابع مرتجفة "كوليسترول" على محرِّك البحث. صادَفَتْني أولاً صفحة شاملة من "ويكيبيديا"، فتحتها فانبعثت بوجهي رائحة "دجاج مقلي"، و"شاورما لحم" و"بطاطا ودجيز"، "وكباب لبناني" ثمَّ معلومات مؤكدة، موثقة بروابط زرقاء أخرى، تفيدُ ضمنا أنَّني كنتُ أتناولُ دهوناً تراكمَتْ على مدى زمن أجهله، حتى أصبحَتْ طبيا تَعْني "بروتينا دهنيا مرتفع الكثافة". أقرأ معلومات أخرى مقلقة عن مخاطر ارتفاع "المواد الدهنية"، ونصائحَ أظنُّ في لحظة يأس أنَّها لن تجدي مع 13 مليجراما زائدة عن النسبة الطبيعية لـ"الكوليسترول" الخبيث!
سأصادفُ صديقاً سميناً في طريقي المرتبكِ بهذيان "المرض". أستفسر بقلق مُبالغٍ فيه إنْ كانَ "الكوليسترول" مؤذيا، وأمعنُ في الوهم حين أسأله بجدية إنْ كان سيُعيقُني، في المسقبل، الذي لا يبدو قريبا، عن مهام الإنجاب (!). يتجاوَزُ الصديقُ كذلك أسئلتي التالية التي ذهبَتْ نحو مخاوف تأثير المواد "الدهنية" على وظائفي "الذهنية"، ثمَّ ينظرُ إليَّ باستصغار مُحاربٍ ضخم عائد للتو من الجبهة أمام مواطن مُسالمٍ يسألُ عن جهة البحر..؛ فهِمْتُ من نظراته الجانبية الأخرى إليَّ أنني كائنٌ ضئيلٌ على مرض كبير كـ "الكوليسترول" (مصابٌ به هو بالضرورة على نحو مُتفاقم)..، فمن أين لبُنْيَةٍ ستينيَّة الوزن والطول أنْ تحظى بدهون زائدة في أول الثلاثين من عُمْر عَفِيْ!
ولن أحتارَ كثيرا في الإجابة..؛ فكلُّما صادفْتُ شابا ثلاثينيا سأسأله عن "المرض الأربعيني"، ليبتُرَ سؤالي من منتصفِه بإجابة سلبيَّةٍ تؤكِّد مراكمة دهون تحتاج إلى عُمْر "دسم" في أعوام سريعة خاليّةٍ من الحركة في مدينة مكتظة بالسيارات الحديثة، والمطاعم التي تحضِّر الطعام السريع الخالي إلاَّ..من "الكوليسترول"، والقلق المزمن على أشياء لم تحدث بعد..؛ عُمْرٌ مقتضَبٌ أكثر من نصفه ذهَبَ في عزوبيَّةٍ ممتدَّة حتى الأربعين، وحينَ يتمُّ الزواج تكون الزوجة في سنِّ الكسل، وقد بهُتَتْ من خيالها وصفات "أبلة نظيرة" لمصلحة حفظ أرقام المطاعم التي تعتني بخدمة "الديلفيري"!
جسدٌ ضئيلٌ، لم تعد تعنيني وسامته، مصابٌ بنسبة قليلة زائدة من "الكوليسترول"..؛ لكنَّها تكفي لإصابتي بالرعب، فأعتادُ على الصحو مبكِّراً لمتابَعَة الفقرة الصحيَّةِ في "صباح العربيَّةِ"، وأحفظُ عن ظهر قلب وصايا الحِمْيَةِ كما دوَّنَها هاوٍ على "ويكيبيديا"، وأكرِّرُ الأسئلة ذاتها على "أرباب الأمراض" الدارجة في الهزيع الأخير من الأربعين، ثمَّ أثابرُ على الهرولة بعيدا عن السيارة..؛ إلى الحياة من جديد!

[email protected]