شبه الرضا: نهج شوبنهاور في السعادة

1
1

ديفيد باثر وودز*

ترجمة: موفق ملكاوي

اضافة اعلان

في 13 (ديسمبر) 1807، كانت جوانا شوبنهاور في فايمار، فأمسكت قلمها وكتبت إلى ابنها آرثر البالغ من العمر 19 عامًا: "من الضروري لسعادتي أن أعرف أنك سعيد، لكن لا أن أكون شاهدة على ذلك".
قبلها بعامين، في هامبورغ، عثر على زوجها هاينريش فلوريس ميتا في قناة واقعة خلف منزل العائلة. ربما انزلق وسقط، لكن آرثر يشك بأن والده قفز من دور علوي إلى المياه الجليدية. بعد أربعة أشهر من الحادثة، باعت جوانا المنزل، وغادرت إلى فايمار حيث كانت تنتظرها مهنة ناجحة ككاتبة وسيدة صالون. بقي آرثر بنية إكمال التدريب التجاري الذي رتبه والده قبل وفاته بقليل. لكنه لم يطق البقاء في هامبورغ.
في تبادل للرسائل طوال العام 1807، دخلت الأم والابن بمفاوضات محمومة حول شروط السماح لآرثر بالرحيل. ستدعم جوانا قرار آرثر بمغادرة هامبورغ بحثا عن حياة فكرية مرضية، بما في ذلك استخدام علاقاتها للمساعدة بتمهيد الطريق لتعليمه الجامعي. لكن بشرط واحد: أن يتركها وشأنها. يجب ألا ينتقل بالقرب منها في فايمار، ولن تسمح له تحت أي ظرف بالبقاء معها.
ما لم يكشف عنه خطها في 13 (ديسمبر) هو أنها، ببساطة، لم تستطع تحمل آرثر: كتبت في 6 (نوفمبر): "كل صفاتك الطيبة يحجبها ذكاؤك الكبير، وتصبح بلا فائدة للعالم بسبب غضب رغبتك بمعرفة كل شيء أفضل من الآخرين. لو كنت غير ذلك فستكون سخيفا فقط، ولكن بما أنت عليه، أنت مزعج للغاية". باختصار، كان شخصا بائسا ومرهقا بلا شبيه.
إذا كان الناس وجدوا أن صحبة آرثر شوبنهاور لا تطاق، فقد كان الشعور متبادلا. قضى فترات اكتئاب طويلة في عزلة ذاتية، بما في ذلك الشهرين الأولين للعام 1832 بغرفته الجديدة في فرانكفورت، المدينة التي أصبحت منزله بعد فترة قضاها ببرلين. دافع عن نفسه ضد الشعور بالوحدة مع اعتقاد أن العزلة شرط مناسب وحيد للفيلسوف: "لو كنت ملكا، فسيكون أمري الأساسي: دعوني وشأني". موضوع السعادة، إذن، لا يرتبط عادة بشوبنهاور، لا كشخص ولا كفيلسوف. بل على العكس تماما: فهو يرتبط بأعمق تشاؤم في تاريخ الفلسفة الأوروبية.
يستند تشاؤم شوبنهاور لنوعين من الملاحظة. الأول ملاحظة بنظرة داخلية تفيد أننا لسنا مجرد كائنات عقلانية تسعى لمعرفة وفهم العالم، ولكن كائنات راغبة بالحصول على أشياء من العالم، أيضا. يدعي شوبنهاور أن وراء كل جهد نقص مؤلم بشيء ما، لكن الحصول على الشيء نادرا ما يجعلنا سعداء. حتى لو تمكنا من تلبية رغبة واحدة، فهناك دائما العديد من الرغبات غير المجابة المستعدة لتحل محلها. أو، غير ذلك، أن نشعر بالملل، مدركين أن الحياة التي لا نرغبها هي حياة مملة وفارغة. إذا كنا محظوظين بما يكفي لتلبية احتياجاتنا الأساسية، مثل الجوع والعطش، فللهروب من الملل نطور احتياجات جديدة من السلع الفاخرة، مثل الكحول أو التبغ أو الملابس العصرية. برأي شوبنهاور، لا نصل في أي وقت إلى الرضا النهائي والدائم. ومن هنا جاء قوله المعروف: "الحياة تتأرجح ذهابا وإيابا مثل البندول؛ بين الألم والضجر".
عرف شوبنهاور من دراساته المكثفة للفلسفة الهندية الكلاسيكية أنه لم يكن أول من لاحظ أن المعاناة ضرورية للحياة. البوذيون لديهم كلمة تعبر عن هذه المعاناة، هي "دوكا"، المعترف بها في أول حقائقها الأربعة النبيلة. الرابع والأخير من هذه الحقائق "ماغا"، أو الطريق الثماني النبيل المؤدي لتوقف "دوكا"، من شأنه أيضا أن يلهم أجزاء كبيرة من فلسفته الأخلاقية.
النوع الثاني من الملاحظة هو نظرة خارجية. وفقا لشوبنهاور فإن إلقاء نظرة على العالم حولنا يدحض فرضية تفاؤل جوتفريد لايبنيز بأن عالمنا الأفضل بين جميع العوالم الممكنة. بعكس ذلك، يدعي شوبنهاور بأنه إذا رتبنا عالمنا بأي شكل، فإنه مأمور بمضاعفة الألم والمعاناة. ويضرب مثالا بالحيوانات المفترسة التي لا يمكنها إلا أن تفترس الحيوانات الأخرى لأجل البقاء، وبالتالي تصبح "القبر الحي لآلاف الآخرين". الطبيعة ككل "حمراء في الأسنان والمخلب"، كما قال اللورد ألفريد تينيسون لاحقا، حيث تحرض مخلوقا ضد آخر، إما كمفترس أو مفترس، بمعركة مميتة لأجل البقاء.
الحضارة لا تساعد كثيرا أيضا. تضيف كثيرا من مواقع المعاناة الإنسانية. كتب شوبنهاور في كتابه "العالم كإرادة وتمثيل" (1818): "لو قدت أكثر المتفائلين الذين لا يشعرون بالندم عبر المستشفيات وثكنات العسكر وغرف عمليات الجراحة، عبر السجون وغرف التعذيب مجمعات العبيد، عبر ساحات القتال وقاعات الحكم، ثم فتحت له كل مساكن البؤس المظلمة المختبئة من فضول البرد، فهو، بالتأكيد، سيرى أن الطبيعة هي الأفضل في جميع العوالم الممكنة".
إذا كان عليك تخمين الغرض من العالم بمجرد النظر إلى النتائج التي يحققها، فلا يمكنك إلا التفكير في أنه مكان للعقاب.
تدعم هذه الملاحظات؛ الأولى عن الطبيعة البشرية والثانية عن الطبيعة نفسها، ادعاءات شوبنهاور المتشائمة بأن الحياة لا تستحق العيش وأن العالم لا يجب أن يوجد. لا يتم منحنا أبدا خيارا مسبقا بالوجود أو عدم الوجود، لكن لو ملكنا الخيار، فسيكون من غير المنطقي اختيار الوجود في عالم لا يمكننا فيه الاستفادة من الحياة، بل نظل نسجل الخسائر. أو كما يضعها شوبنهاور في سطر رئيسي آخر: "الحياة عمل لا يغطي تكاليفه".
وسط هذا كله، هل هناك مكان للسعادة؟ بالتأكيد ينبغي أن يكون. لا يمكن تجاهل أن السعادة موجودة؛ لقد اختبرها كثيرون بأنفسهم ورأوها في آخرين. لكن بمجرد اعتراف شوبنهاور بوجود السعادة، هناك خطر من أن يبدأ تشاؤمه بالانهيار. حتى لو كان صحيحا أن كل كائن حي يجب أن يواجه المعاناة، فقد يتم تعويض هذه المعاناة بإيجاد قدر من السعادة أيضا. قد تكون بعض المعاناة وسيلة لسعادة تستحق الحصول عليها أو حتى جزء منها. إن كان كذلك، فشوبنهاور لم يقدم لنا سببا وجيها لعدم الرغبة في الوجود. ففي النهاية، السعادة قد تجعل الحياة مستحقة للعيش.
لا ينكر شوبنهاور وجود السعادة. لكنه يعتقد أننا مخطئون بشأن ماهيتها. بنظره، السعادة له ليست أكثر من عدم وجود الألم والمعاناة. لحظة الراحة التي نشعر بها أحيانا بين تحقيق رغبة والسعي وراء أخرى. مثلا، تخيل مدى رضاك عن شراء منزلك الأول. ما يجعلنا سعداء هنا، بحسب شوبنهاور، ليست الحالة الإيجابية لكونك صاحب منزل، ولكن الحالة السلبية للراحة من المخاوف المتأتية من عدم امتلاك منزلك (إضافة للراحة من عملية شراء العقارات المرهقة). هذه السعادة، كما يشير شوبنهاور، من المرجح أن تكون قصيرة، لتظهر مخاوف وضغوط جديدة، مثل سداد الرهن العقاري، أو تنظيف الحمام.
ملاحظات نفسية ذكية تعزز موقفه من الطبيعة السلبية للسعادة. كلهم يسلطون الضوء على صعوبة تحقيق السعادة وتقديرها. مثلا، نحن لا نميل لملاحظة جميع الأشياء التي تسير على ما يرام بالنسبة لنا، ولكننا، في المقابل، نركز على الأشياء السيئة، كما يقول شوبنهاور: "نحن لا نشعر بصحة كامل جسمنا، ولكننا، فقط، نشعر بالمكان الصغير حيث يقرصنا الحذاء". إذا تمكنا من حل كل ما يزعجنا، فإننا نميل سريعا لاعتباره أمرا مفروغا منه وتحويل تركيزنا للمشكلة التالية: "مثل لقمة الطعام التي استمتعنا بها، والتي يتوقف شعورنا بوجودها لحظة ابتلاعها". كذلك، مهما كانت المشكلة التالية صغيرة، فإننا نميل إلى تضخيمها لتتناسب مع المشكلة السابقة: "تعرف كيف تنفخ نفسها لتبدو معادلة لها بالحجم، وبالتالي يمكنها ملء كامل المكان الرئيسي الشاغل لليوم". لذلك، نادرا ما نشعر بفائدة الأشياء التي نمتلكها بينما ما نزال نمتلكها: "على هذا النحو، نحن لا ندرك أهم ثلاث خيرات بالحياة؛ الصحة والشباب والحرية، طالما نمتلكها، وندرك أهميتها، فقط، بعد فقدانها". أو كما قالها لاحقا جوني ميتشل: "أنت لا تعرف ما لديك حتى يزول".
لا يعني هذا أنه لا أحد يشعر بالسعادة. سيخالف ذلك اختبارات شخصية لعدد لا يحصى من الناس الذين اختبروا السعادة بمرحلة ما من حياتهم. لكنه يخبرنا أن السعادة تختلف عن الألم والمعاناة بالطريقة التي نشعر بها. الألم والمعاناة يعلنان حاليهما سواء أحببنا ذلك أم لا. يسلطان الضوء على وجود خطأ ما يحتاج لإصلاح. مهما كانت المشكلة صغيرة وتافهة، فالألم والمعاناة يجعلانها أولويتنا الأولى. بينما، المشاعر السعيدة لا تعلن نفسها دائما. يمكننا الحصول على كل الأشياء التي من المفترض أن تجعلنا سعيدين ومع ذلك نفشل في الشعور بالسعادة. قد يكون السبب أن الألم والمعاناة يبددان الأشياء لكيلا نشعر بالسعادة. ربما، أيضا، أننا نسينا الأشياء التي تفيدنا؛ كلقمة الطعام بعد ابتلاعها.
لذلك، يؤكد شوبنهاور الدور الأساسي للتذكر والتفكير بتوليد مشاعر السعادة: "يكون إدراكنا للرضا والمتعة غير مباشر عند تذكر المعاناة والحرمان التي سبقتهما وتوقفت عند ظهورهما." بمعنى آخر؛ الاستفادة من امتلاك الأشياء بتذكر كيفية الشعور بعدم امتلاكها. حقيقة أن هذه السعادة تقوم على وقف المعاناة السابقة لا تتعارض مع مشاعر السعادة الشديدة. شدة المتعة تتناسب مع شدة المعاناة السابقة لها. رغم بعده عن السعادة، يقدم بريمو ليفي مثالا قويا على إمكانيات الارتياح العميق في كتابه "إذا كان هذا رجلا" (1947)، روايته عن السجن في أوشفيتز، عندما يستعرض اللحظات القصيرة بين مهام العمل: "عندما نصل للحظيرة نفرغ حملنا على الأرض. أقف بصلابة وعيني شاغرة، وفمي مفتوحا، وذراعي متدليتين، وأغرق بالنشوة العابرة لتوقف الألم".
تذكر معاناتنا الفعلية الماضية ليس خيارا وحيدا للشعور بالرضا عن الحاضر. يمكننا، أيضا، التفكير بكل معاناة كانت ممكنة لنا. هذا النوع من التفكير قد يكون فعالا بنفس القدر في توليد مشاعر الارتياح، فقط بشأن الأشياء السيئة اللامحدودة التي كان يمكن أن تحدث لنا ولحسن الحظ لم تحدث. كذلك، قد نفكر بالأشياء السيئة التي تحدث أو حدثت لأشخاص آخرين. بهذا السياق، تقدم لنا ذكريات ليفي المؤلمة خدمة أخرى: من المستحيل على المراقبين أن يقرأوا إذا كان هذا رجلا دون الشعور بأنهم محظوظون للغاية لأنهم لم يختبروا المصاعب والإهانات وصفها ليفي.
 عن متعة تجنب مصائب الآخرين، يقتبس شوبنهاور من لوكريتيوس:
 "من دواعي سروري وقوفي إلى البحر حين تهب عليه العواصف، الوقوف على الشاطئ ورؤية محنة القبطان، ليس أننا نحب أن نرى متألما آخر، لكن، يسعدنا معرفة أننا تحررنا من هذا الشر".
يحذرنا شوبنهاور بحكمة من هذا النوع من المتع لأنه "يقع بالقرب من المصدر الحقيقي والإيجابي للحقد". قد يفكر بقربه من الشماتة، وهو الموقف المتمثل في الاستمتاع بمعاناة الآخرين. يحدد لوكريتيوس الخط الرفيع الذي يفصل بين الشماتة والسادية: لا يعني ذلك أننا نتمتع بمصيبة شخص آخر، ولكن محنته تذكرنا بمدى حظنا، وتشعرنا بالسعادة حيال ذلك.
لكن، أحيانا، يدين شوبنهاور الشماتة بأقوى العبارات: "الشماتة أسوأ سمات الطبيعة البشرية". بنظره الفرق بين الشماتة والقسوة هو مجرد الفرق بين الموقف والفعل: "نظرا لأن الشماتة هي مجرد قسوة نظرية، فببساطة القسوة العملية هي الشماتة. المواقف مثل الحسد - رغبة سلب نجاح شخص آخر لنفسك - معيبة لكن يمكن تبريرها كسلوك بشري، بينما الشماتة "شيطانية" بشكل إيجابي.
حسب فهم شوبنهاور، لنكون سعداء يتوجب استهداف القضاء على الألم والمعاناة في حياتنا، ولنشعر بالسعادة، يتوجب، أيضا أخذ الوقت الكافي للتفكير في غيابها. بحثا عن نظام أخلاقي قائم على رؤى مماثلة، لجأ شوبنهاور، ليس للفلاسفة الأخلاقيين في عصره، بل لمدارس الفكر اليونانية القديمة. من بين كل تلك المدارس، كما يقترح، فإن وجهات نظره الخاصة حول السعادة لها صلة وثيقة بالمذهب الرواقي: يدعي أن الفلاسفة الرواقيين مثل استوبايوس وإبيكتيتوس وسينيكا، حددوا حياة سعيدة مع وجود غير مؤلم.
عموما، تعتبر اليونان القديمة مكانا جيدا لبدء البحث عن فلسفة السعادة، فبحسب شوبنهاور، اتفق الإغريق على شيء واحد: مهمة العقل العملي اكتشاف أفضل أنواع الحياة وكيف يمكن تحقيقها.  لكن شوبنهاوريقول، باستثناء أفلاطون، وازنوا جميعهم بتوفير دليل لحياة سعيدة. اهتموا فقط بكيفية تمكّن الفضيلة من تحسين حياتنا الأرضية، ولم يفكروا كثيرا بكيفية ارتباطها بأي حياة بعد الموت أو أي عالم آخر.
التفكير بالسعادة كتجنب للمعاناة رأي يميز الرواقية عن المدارس الأخرى، وفقا لشوبنهاور وآخرين. وظيفتان للعقل العملي استخدمهما الرواقيون في بحثهم عن وجود غير مؤلم. وظيفة غير مباشرة، حيث يسمح التخطيط الدقيق والتدبر للرواقيين باختيار واتباع المسار الأقل إيلاما في الحياة. والوظيفة المباشرة، وتقضي أنه بدلا من إزالة أو تجنب العقبات في مسار الحياة، يعيد الرواقي النظر بهذه العقبات بطريقة تغير مشاعره تجاهها، مثل تغيير الممارسة أو تغيير التفكير.
مساهمة الرواقية المتميزة بالأخلاق تكمن بطبيعة التغيير في التفكير الذي توصي به، وفقا لشوبنهاور. أولا، يلاحظ الرواقي أن المشاعر المؤلمة للحرمان "لا تنبع فورا وبالضرورة من عدم الامتلاك، بل من الرغبة في الامتلاك، وأنه حتى الآن لا تملك". بعد ذلك يصبح من الواضح أنه لتجنب هذه المشاعر المؤلمة تماما، يجب التخلص من جزء الرغبة في الامتلاك. أيضا، كلما كانت طموحاتنا أكبر بما نريده وزادت آمالنا بتحقيقه، زاد الألم عند الفشل. إذا لم يكن عدم الرغبة في الحصول على بعض الأشياء بأيدينا، فعلينا على الأقل إبقاء تلك الرغبات ضمن أنساق واقعية وقابلة للتحقيق. ربما يعود شوبنهاور لتشاؤمه، ويضيف أننا يجب أن نشك بأنفسنا إن بدأنا بتوقع قدر كبير من السعادة المنتظرة بالمستقبل؛ من المؤكد أننا غير واقعيين. يقول: "كل متعة حية هي وهم".
إذن، اقتراحات الرواقية لـ"الطمأنينة" تهدف لجلب حالة من الهدوء الداخلي والصفاء مهما كان العالم الخارجي مضطربا. يعتقد شوبنهاور أن ملاحظاته حول حتمية المعاناة يمكن أن تساعد بتحقيق الهدف إن تم اعتبارها قناعات. يزداد الألم والمعاناة إذا اعتقدنا أنهما عرضيان وكان من الممكن تجنبهما. بينما قد يكون ذلك صحيحا بالنسبة لأي معاناة خاصة كان يمكن تجنبها، فإن المعاناة، بشكل عام، عالمية ولا مفر منها. يعتقد شوبنهاور أنه إن تمكنا من أخذ هذا الأمر على عاتقنا، فقد يقل قلقنا بشأن مواجهة المعاناة، أو على الأقل نقلق بشأنها بالطريقة التي نشعر بالقلق حيال أشياء أخرى لا يمكننا تجنبها، كالشيخوخة والموت.
آخر شيء يجب أن نفعله هو أن نصدق العكس: أن قدرنا إيجاد السعادة في الحياة بدلا من مواجهة المعاناة. إذا كنا نعتقد أن العالم مدين لنا بالسعادة، فلا بد أن نشعر بخيبة أمل مؤلمة، لأسباب ليس أقلها أنه تحقيق ما نعتقد أنه سيجعلنا سعداء، ستكون لدينا رغبات جديدة غير محققة تحل مكان القديمة. نحن ملزمون أيضا بالشعور بالاستياء حيال العقبات الواقفة بيننا وبين السعادة التي نشعر بأننا نستحقها. يلاحظ شوبنهاور أن بعض الناس يركزون ويخرجون هذا الاستياء من خلال تحديد هدف لحياة سعيدة يعلمون أنها غير قابلة للتحقق على مستوى ما. ثم، عندما لا تتحقق أبدا، فإن لديهم دائما شيئا آخر غير أنفسهم ليلوموه على سبب عدم سعادتهم. يقول شوبنهاور: "في هذا الصدد، يلعب الدافع الخارجي للحزن الدور نفسه الذي يلعبه علاج البثور في الجسم؛ يجمع معا كل المزاجات السيئة التي كانت ستنتشر لولا ذلك".
ومع ذلك، فشوبنهاور الذي يشعر بألفة تجاه طرائق تفكير الرواقية، لا يتوافق معها بكل قضية. واقعيا، هو يرفض الفرضية الأساسية المشتركة بين جميع المدارس اليونانية القديمة: الحياة السعيدة غير ممكنة، فوفقا لشوبنهاور، كل الحياة معاناة. ابتكار أنظمة أخلاقية لتكون بمثابة دليل لحياة سعيدة هو، بحسب بشوبنهاور، مهمة حمقاء. تعتبر النهاية المنطقية للرواقية شائكة جدا، وفقا لشوبنهاور، لأنها تصور أن مهمة القضاء على الألم هو هدف السعادة. إن كان محقا بأن الحياة كلها معاناة، فالطريقة الوحيدة حقا للقضاء على المعاناة هي القضاء على الحياة نفسها. إذن، النهاية الأخيرة للرواقية ستكون الانتحار.
في المقابل، يمنحنا شوبنهاور صورة مغايرة للحياة سعيدة، ليست صورة السعادة الكاملة. ففي حين لا يمكن استبعاد المعاناة تماما من الحياة فإنه يمكن تقليلها بالتأكد على عدم استمرار أي نوع من المعاناة فترة طويلة. بالعودة لصورة شوبنهاور "البندول"، فإن الحياة السعيدة ستشمل نجاحا كافيا بتحقيق رغباتنا لكيلا نشعر أبدا بألم شديد، ولكن، أيضا، فشلا كافيا لضمان عدم مللنا أبدا. ستكون "لعبة الانتقال المستمر من الرغبة للرضا ومنه لرغبة جديدة، لعبة تسمى مسارها السريع السعادة ومسارها البطيء المعاناة". تذبذب جيد بين الرغبة والإنجاز، والتي بمعظمها حياة شبه راضية، هي أفضل ما يمكن أن نأمله فيما يتعلق بالسعادة.
إذا كانت الحياة الجيدة، التي يتم تصورها بأنها حياة سعيدة، هدفا عديم الجدوى للأخلاق، فإن هذا يثير تساؤلا حول الهدف الحقيقي للأخلاق. خلفية تشاؤم شوبنهاور ليست بعيدة عن هذا السؤال. ليس من الواضح لشوبنهاور أن الحياة شبه الراضية أفضل من عدم الوجود. ستظل مثل هذه الحياة مليئة بالمعاناة، حتى لو لم يستمر أي نوع من المعاناة فترة طويلة.
بدلا من محاولة تحويل العالم إلى منزل سعيد، يختار شوبنهاور أخلاقا قد تنقذنا من العالم تماما. إنه يقدم الزهد على الرواقية، وهو ممارسة الإنكارالشديد للذات، والمتمثل بالقديسين والصوفيين بديانات كثيرة في العالم:
"كم يبدون مختلفين تماما، مقارنة بالحكيم الرواقي، أولئك الذين تضعهم حكمة الهند أمامنا وقد أوجدتهم بالفعل، أولئك التائبون طواعية الذين تغلبوا على العالم".
الزاهدون الآخرون ليسوا سعداء بنظر شوبنهاور. لقد تخلوا تماما عن لعبة الحياة شبه الراضية، فهم يقبلون، ويلجأون إلى ترميز عالمية وحتمية المعاناة، من أجل تجاوزها. بالنسبة للزاهد، من المرجح أن يستخدم شوبنهاور كلمات مثل الهدوء والسلام أكثر من السعادة والمتعة.
القول إن شوبنهاور أيد الزهد قد يبدو إشارة لممارسته بنفسه. هذا مستبعد. الجزء الأكثر زهدا في روتينه اليومي بفرانكفورت كان الحمام الإسفنجي البارد يأخذه بين السابعة والثامنة صباحا. بعدها، يصنع قهوته الخاصة ويتفرغ للكتابة لساعات قبل استقبال بعض الزوار، وعند الظهر تأتي مدبرة منزله لتطلب منهم المغادرة. كان يعزف على الفلوت مدة نصف ساعة يوميا - وهو نشاط، وفقا لفريدريك نيتشه، كذّب صدق تشاؤمه - بعدها يشق طريقه لفندق أنجليتير لتناول وجبة دسمة بعد الظهر. ثم، قد يصنع لنفسه قهوة أخرى، ويأخذ قيلولة مدة ساعة، ثم يقرأ قليلا من الأدب قبل أن يخرج مع كلبه البودل الأبيض "أتما"، ويدخن السيجار. وأخيرا يلجأ لفراشه لينام كالمعتاد تسع ساعات. حياة بوذا لم تكن كذلك.
إذن، فتأييد شوبنهاور للزهد هو إعجاب أكثر منه طموح. في دفاعه، ومرة أخرى بعكس الإغريق القدماء، اعتقد شوبنهاور أن الدراسة النظرية للأخلاق لا علاقة لها بعيش حياة أخلاقية، أو العكس بالعكس: "ليس ضروريا أن يكون القديس فيلسوفا، ولا الفيلسوف قديسا. تماما كما ليس من الضروري أن يكون الشخص الجميل نحاتا عظيما، ولا النحات العظيم جميلا". يقول إن عددا قليلا من الأفراد الاستثنائيين، فقط، يحققون حياة التقشف للخلاص الحقيقي. يتعين على بقيتنا الاكتفاء بحياة شبه راضية بأحسن الأحوال. لكن، إن كانت طريقة حياة شوبنهاور تشكل مثالا على هذه الحياة، فقد لا تبدو سيئة للغاية بالنهاية.
 * زميل تدريس بقسم الفلسفة في جامعة وارويك في كوفنتري بالمملكة المتحدة.