شبيحة في مخيم اليرموك

في الوقت الذي تنفر فيه الأكثرية الكاثرة من السوريين والعرب من مسمى الشبيحة، وترمق صاحبه بنظرة ازدراء، وتخلع عليه أقذع الأوصاف المهينة؛ يفاخر البعض من زبانية الأسد بهذه التسمية الوضيعة، ويعتزون بها أيما اعتزاز. فإذا ما رغب أحد من المعارضين، مثلاً، تحقير واحد من المؤيدين، قال له: يا شبيح، بدون أن يثير هذا اللقب لدى المتهم بالدونية أي شعور بالغضاضة أو الحرج.اضافة اعلان
وكان مثيراً للدهشة والاستغراب معاً، أن يصدح المتظاهرون المؤيدون في ميدان الأمويين، ذات يوم مضى وانقضى من زمن تلك المسيرات الملفقة، بهتاف "شبيحة للأبد لأجل عيونك يا أسد"، وأن يهزج الجنود والقتلة بعد ارتكابهم لكل مجزرة هنا أو هناك، بمثل هذا الحداء الطالع من عهد عبودية الفرد، التي لم يعد لها وجود في هذا العصر سوى في كوريا الشمالية، وفق ما تجلت عنه مشاهد البكاء الجماعية للجنرالات والأفراد وعامة الناس غداة وفاة كل من "كيم إيل سونغ" وابنه وريث المزرعة الكورية.
ولعل أكثر ما أثار ذهول الكثيرين بيننا قبل نحو شهرين، وصدمهم على نحو خاص، رؤية مجموعة ضئيلة من مؤيدي الأسد بين ظهرانينا وهم يتحلقون على ذواتهم أمام السفارة السورية في عبدون، مطلقين على أنفسهم لقب "شبيحة"، الأمر الذي حفزني على استجلاء معنى هذه المفردة الهجينة، وبيان مدلولاتها الرمزية. فعدت الى المراجع وعدد من أمهات كتب اللغة، ووجدت أنها صيغة من صيغ المبالغة، تطلق في الساحل السوري على حثالات مهربين ومجرمين، من ذوي الأجساد الكبيرة والعقول الصغيرة.
وهكذا، فقد اعترتني الدهشة مرة أخرى، وشعرت بقسط من الاستفزاز، حين تواترت الأنباء عن مجموعة فلسطينية في مخيم اليرموك جنوب دمشق، تجاوزت حدود الهتاف للأسد والتسبيح بربوبيته، وذلك بحمل السلاح والقتال ضد ثورة الكرامة والحرية، على الضد مما توافق عليه الفلسطينيون، قادة فصائل ومجتمعاً، بضرورة الحياد بين الطرفين المتحاربين، أياً كانت العواطف الشخصية؛ وذلك درءاً لكل افتئات من جانب كتائب الأسد ضد من يُستوطى حيطهم بسهولة.
ولولا أنني أعلم علم اليقين أن الشبيحة الفلسطينيين أولئك هم نفر من المرتبطين تاريخياً بأجهزة الأمن السورية، وأن متظاهرين في اليرموك نفسه أهدروا على الهواء دم قادة أولئك الشبيحة جراء مقارفات سابقة ذميمة، لوضعت يدي على قلبي خشية أن يكون هؤلاء الذين يعضون على جراحهم قد فقدوا البوصلة الفلسطينية، وأضلوا سواء السبيل، في لحظة زمنية هادرة بخيوط فجر يوم سوري أغر، يتسع صباحه لاحتفال الجميع، داخل اليرموك وفي جواره، بشمس حرية باذخة.
وليس من شك في أن ثوار سورية أنفسهم يدركون تماماً أن بنادق الشبيحة من ذلك المخيم الذي انطلق فيه الرصاص تجاه صدورهم، ليست بنادق فلسطينية، وأن من انجرفوا في معركة صغيرة ضد ثورة كبيرة لا يعبرون عن ضمير أو وجدان فلسطيني عام، أو يمثلون اتجاهاً يعتد به في صفوف ضيوف طال بهم المقام.
ولعل ذلك الفتى المقدسي الذي رفع علم الثورة السورية فوق المسجد الاقصى قبل نحو أسبوعين، كان التعبير الأمثل عما يضطرم في صدور عموم إخوانه، في الديار وفي الشتات، من عواطف صميمية حيال هذه الثورة.
وفي نهاية المطاف، يظل من الممكن إيجاد بعض الأعذار للشبيحة، وفهم أولئك الأوغاد المتورطين، عن جهل أو عن مصالح جزئية فاسدة، أو حتى عن انحياز سياسي، في الدفاع عن الطاغية. أما الذين يهتفون لآلة القتل المتوحشة، ويرتضون لأنفسهم بلقب شبيح وشبيحة، سواءً أكانوا في عبدون أو في مخيم اليرموك، فهم قوم لا يمكن تبرير مواقفهم، أو إبداء التفهم لهم، حتى لا نقول إنه ينبغي مواصلة عزلهم، وتأثيمهم على سوء ما اختاروه لأنفسهم بأنفسهم.