شتيوي: وثيقة القومية العربية نادرة

تيسير النعيمات عمان– اكد مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية، الدكتور موسى شتيوي، ان وثيقة "القومية العربية: بقلم جلالة الملك الحسين بن طلال"، نادرة، ومن أجل فهمها ومناقشتها، لا بد من النظر إليها في سياقها التاريخي والسياسي، الذي جاء بعد عقود قليلة من التحرر من الاستعمار. وقال شتيوي في مؤتمر صحفي عقده في مقر المركز ظهر امس لاطلاق الوثيقة ان لها ابعاد ضمن السياق التاريخي عالمي وعربي، وفي مرحلة بناء الدولة الوطنية بعد تلك الفترة الزمنية التي شهدت سجالاً فكرياً وصراعاً سياسياً حول طبيعة دولة ما بعد الاستعمار، وما هي الطريق أو شكل الدولة الذي يمكن أن يحقق عملية التنمية في دول العالم الثالث. وبين شتيوي :عربياً؛ شكّلت هذه المرحلة صعوداً كبيراً للتيارات والقوى القومية بمسمياتها المختلفة، التي جاء أغلب قادتها السياسيين من العسكر، ومن خلال الانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة، وتابع ولكن بصرف النظر عن ذلك، كانت فكرة الوحدة العربية مسيطرة على وجدان شعوب المنطقة. ويجيء اطلاق الوثيقة ضمن سلسلة منشورات ووثائق كرسي الملك الحسين للدراسات الأردنية والدولية. واشار شتيوي إن هذه الوثيقة التاريخية، والتي نشرت باللغة الانجليزية في المجلة الاميركية المشهورة "لايف ماغازين" في ايار 1960، جاءت لتخاطب العالم الغربي حول ماهية القيم العربية والاسلامية الاصيلة التي تحملها فكرة القومية العربية، التي تبلورت في قيم ومبادىء الثورة العربية الكبرى والنهضة العربية. وأضاف شتيوي بأن المركز يأمل من خلال نشر هذه الوثيقة ضمن سلسلة كرسي الملك الحسين للدراسات الاردنية والدولية بالمركز، أن تحظى بالاهتمام الرسمي والأكاديمي، الذي تستحقه والتي تشكل مدخلا لفهم سياسات مواقف الدولة الاردنية منذ نشأتها وحتى اليوم،" ولأنها أيضا تلخص فلسفة الهاشميين ورؤيتهم للحكم التي يسترشد بها ويبني عليها جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين". وعرض شتيوي للمرحلة التاريخية للوثيقة مشيرا ان المدّ القومي لم يكن وحيداً بالساحة، بل كان هناك صعود للفكر الشيوعي أو الماركسي في مرحلة التحرر الوطني، والذي جاء أيضاً في سياق الحرب الباردة بين الفكر الشيوعي/ الاشتراكي، الذي يركز على الصراع الطبقي على حساب البُعد القومي الذي كان بقوة الاتحاد السوفييتي السابق وبين الفكر الرأسمالي، الذي يركز على الرأسمالية بوصفها وسيلة للتنمية والتحديث وعلى الديمقراطية باعتبارها النظام السياسي الأمثل والمنبثقة من التجربة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. أردنياً؛ وفق شتيوي فقد جاءت هذه الوثيقة بعد عشر سنوات من الوحدة بين الضفتين، وأربع سنوات من تعريب الجيش العربي الأردني، وثلاثة سنوات من إلغاء المعاهدة مع بريطانيا، وبداية الجهود الوطنية في بناء الدولة الحديثة. واعتبران هذه الوثيقة تشكل الأساس الفكري والأخلاقي والقيمي والسياسي للرؤية الهاشمية للدولة العربية الحديثة المبنية على أسس ومبادئ النهضة العربية،" وبذلك فهو يقدم أنموذجاً عربياً حديثاً له"ا. ويرى شتيوي ان الوثيقة كانت موجهة للغرب، بالدرجة الأولى، كونها نُشرت باللغة الإنجليزية أولاً، ولكنها أيضاً تستهدف الجمهور العربي والأردني. وقد جاءت شاملة ومتكاملة غطت جميع الجوانب المرتبطة بنشأة فكرة القومية العربية(النهضة العربية) والثورة العربية الكبرى ، وأسباب عدم تحقيق طموحاتها، ورؤية الحسين،رحمه الله، للوحدة العربية والجامعة العربية والصراع العربي الإسرائيلي، والأسس التي تستند إليها الدولة الأردنية. ولفت انه عند كتابة الوثيقة، كان الصراع على أشده بين المعسكر الغربي «العالم الحر» والمعسكر الشرقي «الشيوعي». كان للملك موقف نقدي من المعسكر الشيوعي لأسباب كثيرة، منها عدم وجود حرية الفكر والعمل والسلطة الزائدة للدولة. لذا فهو اختار“العالم الحر” أو المعسكر الغربي ، واعتبر الأمم الصغيرة،كالأردن، هي خط الحرية الأمامي للعالم الحرّ. لكنه لم يكن راضياً عن موقف الدول الكبرى؛ لأنها لا تدرك أو تعترف بالأماني القومية لتلك الدول، بالرغم من إدراكها لأهميتها الاستراتيجية، وأن في ذلك جزءاً كبيراً للأهداف المشتركة للأمم الحرة. وقال شتيوي ان القومية العربية، في نظر الحسين، هي قوة خير وتآلف بين العرب، وهذه القيم هي التي تشكل الأمل الذي يؤدي للتماسك والمنعة. وبهذا المعنى، فإن القومية ليست معادية للأمم والقوميات الأخرى، الذي عمل بعض العرب وحتى بعض دول العالم الخارجي على تصوير القومية العربية على أنها تهديد لمصالح الدول، وبخاصة الغربية، التي بدورها تصرفت معها على هذا الأساس بمنأى عن طموحات شعوب المنطقة وآمالها. والقومية العربية تعود جذورها الأولى لفترة زمنية طويلة، إلا أن تاريخها الحقيقي ظهر مع بروز الإسلام، الذي جاء بوصفه مجموعة من القيم والمبادئ التي شكّلت القوة الروحية للعرب، ومن أهمها: المساواة بين الأفراد؛ والتسامح؛ والمحبة؛ والإحساس بالعدالة. إذاً، وفق شتيوي " بالنسبة للحسين، كانت القومية العربية قائمة على هذا المخزون الثقافي الإنساني، وليس على التعصب العرقي والمبادئ السياسية، وهذه هي بنظر الحسين العظيم القيم التي يدافع عنها العالم الحر. من هنا؛ فإن الإنحياز للمعسكر الحر جاء ليس لأسباب سياسية، وإنما لانحياز قيمي أخلاقي متأصل في الروح القومية العربية. هذه هي القيم التي ساعدت العرب على الانتشار الإسلامي، وإقامة الإمبراطورية العربية التي استطاعت أن تصهر الثقافات والحضارات التي فتحت الآفاق للتقدم في العلوم والطب والفلسفة، التي ما زالت موضع تقدير حتى هذا اليو ". وبالرغم من تأثر العرب بالقومية في أوروبا، إلا أن جذور القومية العربية الحديثة تعود، من وجهة نظره، لبروز القومية التركية التي عملت على إقصاء العرب عن المشاركة بالحكم، ومحاولة طمس الهوية العربية ، وكان إعدام قادة العرب في بيروت ودمشق العام 1916 الشرارة التي شكّلت أكبر حافز للبدء بالثورة العربية الكبرى من خلال استنهاض الروح القومية للأسرة الهاشمية لقيادة هذه الثورة لما تملكه من إرث ومكانة وزعامة. وانطلقت الثورة العربية العام 1916 بعد تفاهمات مع الإنجليز على قيام العرب بالثورة ضد الأتراك، وتكوين دولة عربية حرّة بمساعدة الإنجليز. واكد مدير مركز الدراسات ان الحسين وأنجاله اوفوا بوعدهم بمساعدتهم على هزيمة ألمانيا وتركيا، ولكن الإنجليز نكثوا بوعدهم. وبين ان الإجابة عن ما حدث للاتفاق، بنظر الحسين، تفسر الكثير من مواقف العرب حيال الغرب اليوم، والحسين الحليف للغرب يمتلك الجرأة للقول إن اتفاقية سايكس- بيكو 1916 ووعد بلفور شكلا صدمة وخيبة أمل للعرب، إذ إن سايكس – بيكو كانت خطة التآمر على العرب بتقاسم المنطقة بين الإنجليز والفرنسيين، ووعد بلفور مكّن الحركة الصهيونية، ومهّد لإقامة دولة إسرائيل. وقال شتيوي لقد كان للحسين فهم عميق للحركة الصهيونية، التي قضت على قرون من التعايش والعيش المشترك بين كل الديانات في المنطقة. وكان الحسين واضحاً بشدة في تأكيده أنه لا يمكن أن يعم السلام والتفاهم ما دامت الصهيونية تحكم إسرائيل، ودون حل سياسي مُشرف للقضية الفلسطينية. ويرى شتيوي ان الحسين رحمه الله كان واضحاً في خلافه واختلافه مع مفهوم الراحل عبد الناصر للقومية، التي كانت تركز على الوحدة السياسية بطابع قومي محدد. ويستشرف الحسين المشكلات التي يمكن أن تنتج عن هذا النوع من الوحدة، وهي القفز عن التباينات التي يمكن أن تكون موجودة بين الدول، وتحوّل الوحدة الى هيمنة وسيطرة من قبل الدول العربية الكبرى، ومن ثم توليد مشكلات جديدة بين الشعوب والدول العربية، وهو ما أدى ويؤدي الى المؤامرات والانقلابات، ومحاولة تغيير الأنظمة بالقوة. بديلاً عن ذلك ،مشددا : كانت رؤية الملك للوحدة هي الاتحاد والتضامن لمعالجة مشكلات كبرى تواجه العالم العربي محددة كالقضية الفلسطينية بدلاً من محاولة توحيد العالم العربي سياسياً وبالقوة، ما سيؤدي لانحراف الأمة عن مواجهة تحدياتها. وبين انه كانت للحسين رؤية ثاقبة للقومية والوحدة العربية، منبثقة من مبادئ الثورة العربية الكبرى، والواقعية السياسية والفكرية، وبخاصة من حيث التباين في أجزاء العالم العربي، الممتدة من آسيا الى المحيط الأطلسي، الذي يجعل من وحدته السياسية عملية صعبة وغير قابلة للتحقق في المدى المنظور، والتي لا بد من أن تتم على مراحل طويلة وتأخذ أشكالاً متعددة، تكون الوحدة السياسية آخر مراحلها. وتقوم الرؤية التي قدّمها الحسين للوحدة العربية حسب شتيوي بداية الوحدة بين الأقطار التي تشكل وحدة جغرافية، وتاريخاً اقتصادياً اجتماعياً ديموغرافياً متشابهاً،" على سبيل المثال الجزيرة العربية، ومنطقة الهلال الخصيب، ومنطقة وادي النيل، ثم المغرب العربي. إضافةً إلى ذلك، ولصعوبة الوحدة السياسية ، أولاً ، فيمكن أن تتم الوحدة بالتدرج، وفي مجالات محددة مثل : الوحدة الاقتصادية أو الثقافية أو الدفاع المشترك، أو على الاتحاد في مواجهة أخطار محددة، وأن الوحدة يجب أن تكون بإرادة حرة وطوعية من قبل شعوب تلك المنطقة، في إطار جامعة عربية متطورة ، قائمة على المساواة والتكافؤ بين الدول بعكس واقع الجامعة العربية في حينه ". واشار مدير مركز الدراسات ان الجزء الأخيرمن الوثيقة يختص بالأردن، الذي يمكن اعتباره «مانفيستو» للدولة الأردنية، بأبعاده: الأردنية؛ والعربية؛ والعالمية. والدولة الأردنية حاملة لواء النهضة العربية، التي تكمن قوتها بتمسكها بمبادئ الثورة الكبرى، وهي: الحرية؛ والوحدة؛ والمساواة. هذه المبادئ هي التي تشكّل قوة ومنعة الأردن، “فنحن عرب أولاً، وأردنيون ثانياً”. وبسبب حمل لواء العروبة، فقد تحمّل الأردن أعباءً كثيرة ألقيت على كاهله ، نتيجة للسياسات العربية غير السلمية التي تقوم على العاطفة. واكد :كان الحسين منحازاً للديمقراطية، ولكنه، كما يتضح من الوثيقة، يرفض اقتباس أي نظام للحكم وتطبيقه أردنياً، وذلك لأن للديمقراطية تفسيرات مختلفة، وأن الديمقراطية نفسها متغيرة حسب ظروف وأحوال الدول والمجتمعات، وأنها عملية طويلة تقوم على التدرج والبناء. وكذلك، فإن ما ساد العالم العربي من أحزاب، بصرف النظر عن فلسفتها، إلا أنها كانت مرتبطة فكراً وسياسةبقوى خارجية لاتتناسب مع ظروف الأردن وواقعه؛ لأنها ليست منبثقة من التاريخ والواقع الأردني. وعليه، فلا يرى الحسين بتلك الفترة مكاناً للأحزاب الأيديولوجية في الديمقراطية الأردنية الناشئة. والمسألة الأخيرة التي تتطرق لها الوثيقة، هي الدولة الأردنية التي أراد لها الهاشميون أن تكون نموذجاً للدولة العربية الحديثة، القائمة على مبادئ وأسس منبثقة من الواقع العربي والمخزون الفكري والثقافي العالمي. وهذا يتطلب خارطة طريق لعملية بناء الدولة الحديثة التي يكون هدفها الإنسان الأردني، والتي تقوم على تحقيق التنمية الاقتصادية من خلال الاستغلال الأمثل للمصادر الطبيعية في الأردن، وإنشاء البنية التحتية الحديثة، وتحقيق التنمية الإنسانية القائمة على النهوض بالتعليم والمؤسسات التعليمية، مثل: المدارس والجامعات، والنهوض بصحة الإنسان من خلال إقامة المستشفيات والخدمات الصحية في أرجاء البلاد كافة. وحسب قراءة شتيوي للوثيقة فان الدولة الأردنية سوف تسعى لتحسين مستوى المعيشة للفئات الواسعة من العمال والفلاحين الذين هم عماد التنمية وهدفها . وقال شتيوي ان الحسين اكد على أنه لا يمكن تحقيق الأهداف التنموية للدولة الأردنية دون النهوض بالجهاز الحكومي والإداري الذي يجب ان يستند إلى المقدرة، والكفاءة، والديمقراطية. وقال ان هذه المبادئ وتلك الفلسفة التي يقدمها الحسين بهذه الوثيقة،هي فلسفة الهاشميين بالحكم، ونظرتهم لبناء الدولة الحديثة التي أرس مبادئها الحسين بن علي، رائد الثورة العربية الكبرى، وعزّز أسسها أردنياً الملك عبدالله الأول، وكرّسها الملك الباني الحسين بن طلال، وحامل شعلتها اليوم الملك عبدالله الثاني، الذي قدّم رؤيته للدولة الأردنية الحديثة التي تواكب روح العصر ومقتضيات الحداثة، إضافة إلى الأفكار والمبادئ التي تضمنتها الأوراق النقاشية التي أخذت بعين الاعتبار التطورات والتحولات العالمية والمحلية في العقود الثلاثة الماضية. الرؤية التي تضمنتها هذه الأوراق هي: تطوير النظام السياسي، وتطوير المسيرة الديمقراطية، وبناء منظومة قيمية لسيادة القانون والمواطنة، وتعزيز النزاهة في إدارة الدولة، وتطوير القطاع العامة والمضي قُدماً في تطوير الدولة المدنية الضامنة للتعددية والحقوق والحريات وترسيخ قيم السلام والتسامح والعيش المشترك. هذه الرؤية يمكن اعتبارها النسخة الثانية من النهضة العربية لا سيما ونحن على مشارف المئوية الأولى للدولة الأردنية. واكد ان هذه الرؤيه الملكية السامية: تتجلى قولاً وفعلاً من خلال مواقف جلالته الوطنية الصلبة وإرداته الهاشمية الصادقة في الذود عن قضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، ودوره في إظهار الصورة الحقيقية للإسلام من خلال العديد من المبادرات والرسائل الملكية السامية التي تمثل الاعتدال واحترام الآخر والتسامح، مثل: “رسالة عمان”، و “كلمة سواء”، و”الوئام بين الأديان” وغيرها. [email protected]اضافة اعلان