شدّ الأحزمة لا يكفي

لم يعد مفيدا مواصلة الطلب من الناس شدّ الأحزمة، فالبعض -وهم كثر- شدّوا الأحزمة، حتى أوجعتهم المعدة، والبعض الآخر باتوا يشعرون أن الشدّ متواصل بلا أفق واضح، وبلا هدف يتحقق أو نتيجة تلوح في الأفق.اضافة اعلان
القصة ليست في شدّ الحزام لسنتين قادمتين، وإنما في متوالية الأسعار المرتفعة، والتي لا يبدو أن نهاية قريبة لها، ولذا بات حديث مسؤولين عن شعاع نور في نهاية النفق، يقابله الناس بعدم اكتراث، ويعتبرونه إبرة تخدير، لا تعكس حقيقة باتت ماثلة أمامهم.
الواضح حاليا هو ارتفاع حجم التململ، وارتفاع منسوب النقد، وازدياد نسبة الجريمة والانتحار والتذمر، وهذا لم يأتِ من فراغ، وإنما نتيجة سياسات اقتصادية خاطئة، أوغلت كثيرا في جيوب مواطنين لم تعد تحتوي على ما يسد الرمق.
لا شك ان البقاء في الدائرة نفسها، وضمن توصيات صندوق النقد الدولي والذهاب في كل مرة باتجاه رفع الأسعار وزيادة الضرائب ليس هو الطريقة الأنجع والأفضل لمعالجة مشكلتنا الاقتصادية المتفاقمة، فصندوق النقد والبنك الدوليين لا بديل لديهما غير تلك التوصيفات من دون قراءة للواقع السياسي والاجتماعي والأمني في البلاد، وهو يرى أن رفع الأسعار هي الطريقة الأنسب والأنجع لمعالجة الاختلالات الاقتصادية، وهذا هو أساس ولب الاقتصاد الرأسمالي الحر، الذي يقوم على الضرائب ورفع يد الدولة عن التعليم والصحة والنقل والطاقة وخلافه.
ولكننا، ونحن ذاهبون باتجاه تطبيق وصفات الصندوق وملاحظاته، تناسينا أمورا في غاية الأهمية، أبرزها الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد وتعزيز منظومة المساءلة والنزاهة والشفافية، كما أغفلنا عناصر أخرى في غاية الأهمية وهي المنظومة الاجتماعية والسياسية والفكرية للمجتمع، ومدى قدرتها على الاقتناع بسياسة الصندوق في ظل كلام لا متناهٍ عن الفساد والتبذير والشللية، إذ إن بقاء كل ذلك لا يولد أرضية مناسبة لتطبيق سياسة الصندوق وتوصياته، ويجعل الكلام عن شد الأحزمة موجها فقط لطبقة معينة دون غيرها، فيما نجد في المقلب الآخر ليونة في محاربة الفساد، وتدنيا في وضع حد للتطاول على المال العام، وهو الأمر الذي من شأنه تقليص حجم الثقة.
الحقيقة الثابتة أن حلّ مشاكلنا الاقتصادية وعجز موازنتنا لا يكمن في مواصلة الكلام عن شدّ الأحزمة على البطون، فسواد الناس لم تعد تحتمل، فيما تكرّش آخرون نتيجة غياب المساءلة والشفافية، وغياب "من أين لك هذا؟"، وغياب ملاحقة ما يرد في تقارير ديوان المحاسبة من إيضاحات تتضمن تطاولا على المال العام بمبالغ  تساوي ملايين الدنانير.
ولذا؛ فان مواصلة المعنيين تجاهل رؤية الشمس ورصد حجم تذمر الناس، وتواصل ارتفاع الأسعار، وحجم التضخم، لا يخدم مصلحة الوطن ولا المواطن، الذي بات يئن بصوت مرتفع، وباتت قدرته على التحمل في ظل ثبات الرواتب متدنية لدرجة كبيرة.
ولهذا كله، فإن الحل لا يكمن في مواصلة الضغط والذهاب من دون تخطيط لرفع الأسعار وزيادة الضرائب، وإنما حلنا يكمن في تغيير نهجنا الاقتصادي الحالي، والاعتماد على الذات، وتعزيز قيم العمل، وإنعاش القطاع الزراعي، وجعله منتجا ومدرا للدخل، ودعم الصناعة الوطنية ورعايتها وفتح نوافذ تصديرية لها، وتعزيز الاستثمار وعدم وضع عوائق وعراقيل في طريقه، وتقنين المصاريف المرتفعة للوزارات والدوائر، إذ لا يستقيم أن نتحدث عن شد الأحزمة وفِي الوقت عينه نسمع عن تأثيث مكتب لوزير بعشرات آلاف الدنانير، ومن غير المنطق أيضا أن نتحدث عن النزاهة والعدالة ومحاربة الفساد وفِي الوقت عينه تجري تعيينات لأقارب ومحاسيب، من دون ضوابط.
حتى تقنع الناس، وترفع منسوب الثقة عندهم، يتوجب على الحكومة معالجة بواطن الخلل أولا، ووقف الهدر ووضع ضوابط مقنعة، وتغيير نهجنا الاقتصادي قبل مواصلة شد الحزام على البطن.