شرق الصهيونية: ما الذي حدث لمثال الحداثة العربية متعددة الأديان؟ (2-2)

أسامة المقدسي* (مجلة أيون) 3/12/2021 ترجمة: علاء الدين أبو زينة بغض النظر عن إعجابهم المبكر بجوانب الحداثة في الصهيونية، أبعد المسلمون والمسيحيون العرب هذا الخاطر عن ذاكرتهم الجماعية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكرس وعد بلفور في تشرين الثاني (نوفمبر) 1917، وما تلاه من فرض الانتداب البريطاني على فلسطين في العام 1920، مرحلة استعمارية صريحة للصهيونية. وفضلت كل من رسالة وزير الخارجية البريطاني، آرثر بلفور، إلى الزعيم الصهيوني والتر روتشيلد، والسياسة البريطانية المعلنة، علانية المشروع السياسي الأوروبي الخارجي المتمثل في إقامة “وطن قومي” يهودي، على تقرير المصير للسكان العرب الأصليين. * * أثار التنظيم، والتمويل، والثقة الاستعمارية بين العديد من الصهاينة الذين استقروا في فلسطين صراعًا ثقافيًا ومؤسسيًا حول من يمثل حقًا الجالية اليهودية في فلسطين، وكيف سيكون مستقبل الحياة اليهودية هناك. وأدى هذا الصراع بين اليهود إلى انفصال معظم المستعمرين الصهاينة الأوروبيين الأشكناز الذين وصلوا حديثًا عن اليهود السفارديم الذين استقروا منذ فترة طويلة في الإمبراطورية العثمانية، وبالطبع عن يهود الشرق الأوسط الآخرين الذين لم يكونوا أشكنازاً وليس بالضرورة من السفارديم. ولم تكن هذه الخطوط صلبة كلها. كان هناك يهود عرب أشكناز من مواليد فلسطين والذين رفضوا الصهيونية الاستعمارية، تمامًا بينما كان هناك العديد من اليهود السفارديم الذين اعتنقوها منذ البداية، والذين عملوا مع، أو تبرعوا لمؤسسات صهيونية مختلفة. وقد ناقش اليهود الصهيونية في المجالس المجتمعية والمدارس، بما في ذلك تلك التابعة للتحالف الإسرائيلي العالمي الممول من فرنسا، وفي الصحافة اليهودية متعددة اللغات، وفي منازلهم. وأثر النضال في نهاية المطاف على جميع المجتمعات اليهودية الشرقية عبر المغرب والمشرق، وفي سالونيك وغيرها من المدن الكبرى في الإمبراطورية. هل كان اليهود ينتمون إلى أمة عالمية يعيش فيها مواطنون من ديانات مختلفة، أم أنهم ينتمون بشكل أساسي إلى أمة سياسية فقط مع يهود آخرين: سيطر هذا السؤال الأساسي على المسار السياسي للصهيونية في فلسطين. وقد عرف القادة الصهاينة الأوروبيون إجابتهم وعملوا، خاصة بعد المؤتمر الصهيوني العالمي الافتتاحي في بازل في العام 1897، في اتجاه الدفاع عن السيادة اليهودية النهائية اللاحقة في فلسطين أو عليها. وسعوا، على نحو أكثر مباشرة وفورية، إلى تحقيق هجرة بلا عوائق (وجماعية في نهاية المطاف) لليهود الأوروبيين إلى فلسطين بغض النظر عن رغبات العرب الأصليين، وقاموا بشراء الأراضي هناك لإنشاء الأساس المادي لدولة يهودية في فلسطين. بالنسبة لليهود العرب، لم تكن مسألة الصهيونية بهذه البساطة. وقد تصارعت الصحفية النسوية، إستير أزهري مويال، وزوجها الصحفي شمعون مويال، وكذلك نسيم ملول، وهو صحفي آخر، مع العلاقة بين العروبة والصهيونية. فعلى عكس الصهاينة الأوروبيين، كان هؤلاء اليهود يتحدثون العربية ويقدرون الثقافة العربية. ومثل العديد من مواطنيهم اليهود العرب في سورية ومصر، رأى ملول والزوجان مويال في الصهيونية، أو أقنعوا أنفسهم بأنها تشكل تعبيرًا ثقافيًا ووطنيًا يمكن أن يتعايش مع الواقع متعدد الأديان في فلسطين العثمانية -حتى أن الزوجين مويال، وفاء لالتزامهما بعالم مشترك، سميا ابنهما البكر على اسم صديقهما عبد الله نديم، الكاتب القومي المصري الذي لم ينجب أطفالًا. وبالنسبة لهما، لم تبدُ المصالحة بين العروبة والصهيونية مجرد مناورة تشتيتية لتهدئة القلق العربي المتزايد، كما كان الحال مع الصهاينة الأوروبيين البارزين. وضم الأخيرون ناحوم سوكولو، الذي زار بيروت ودمشق في العام 1914 للالتقاء بمفكرين وشخصيات عامة عربية بارزة، وفيكتور جاكوبسون، الذي سعى، كمدير للبنك الصهيوني الأنجلو-فلسطيني في اسطنبول، إلى إقناع صحفي عربي شاب، أسعد داغر، بإمكانية التعاون بين “العرب” و”اليهود”. على سبيل المثال، كتب ملول في العام 1913 أنه “في دَور الأمة الساميّة يجب أن نبني قوميتنا على السامية، وليس المختلطة بطريقة مشوشة مع الثقافة الأوروبية، ومن خلال اللغة العربية يمكننا إيجاد ثقافة عبرية حقيقية. لكننا إذا أدخلنا الأسس الأوروبية في ثقافتنا، فإنا سنكون بصدد الانتحار، ببساطة”. ومع ذلك، ألزم ملول نفسه بالعمل من أجل صهيونية يهيمن عليها الأوروبيون. وقد التحق بـ”المكتب الصهيوني” في يافا في العام 1911، في الوقت نفسه الذي كان يعمل فيه مراسلًا لصحيفة “المقطم” العربية التي تتخذ من القاهرة مقراً لها. وجنبا إلى جنب مع عائلة مويال، سعى باستمرار إلى دحض معاداة الصهيونية في الصحافة العربية، وطمأنة القراء العرب إلى أن الصهيونية كانت بالفعل متوافقة مع التطلعات القومية العربية. وعشية الحرب العالمية الأولى، أصبحت العبرية التي أعيد إحياؤها، وليس العربية أو التركية، هي اللغة السائدة للجالية اليهودية متعددة اللغات في فلسطين، والتي كانت تتحد بسرعة حول هوية قومية يهودية استبعدت الفلسطينيين بشكل واضح. بغض النظر عن إعجابهم المبكر بجوانب الحداثة في الصهيونية، فإن المسلمين والمسيحيين العرب أبعدوا هذا الإعجاب عن ذاكرتهم الجماعية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكرس وعد بلفور في تشرين الثاني (نوفمبر) 1917، وما تلاه من فرض الانتداب البريطاني على فلسطين في العام 1920، مرحلة استعمارية صريحة للصهيونية. وفضلت كل من رسالة وزير الخارجية البريطاني، آرثر بلفور، إلى الزعيم الصهيوني والتر روتشيلد، والسياسة البريطانية المعلنة، علانية المشروع السياسي الأوروبي الخارجي المتمثل في إقامة “وطن قومي” يهودي، على تقرير المصير للسكان العرب الأصليين. وعلى الرغم من أن المسؤولين الاستعماريين البريطانيين أعلنوا أنهم يحملون ميزان العدالة بتوازن إلا أنهم قاموا بشكل منهجي بفصل العرب عن اليهود في فلسطين. ورفضت بريطانيا إمكانية وجود هوية فلسطينية وطنية علمانية، وتجاهلت أو سحقت كل مناسبة للمقاومة الفلسطينية سعت إلى إظهار وتجسيد مثل هذه الهوية. في غضون ذلك، شنت الصهيونية الاستعمارية حربًا غير معلنة -ولكنها مفتوحة على فلسطين العربية. وضغط الصهاينة على البريطانيين علنًا للسماح بالهجرة اليهودية غير المقيدة إلى فلسطين بغض النظر عن رغبات السكان الأصليين، من أجل وضع الأساس الديموغرافي لدولتهم القومية العرقية والدينية الحصرية. وأرادوا تحويل الأغلبية من السكان الأصليين إلى أقلية على أرضها. قال حاييم وايزمان، زعيم الحركة الصهيونية الروسي المولد، لبلفور في العام 1918: “الأرقام الوحشية تعمل ضدنا”. وتعبر رسائل وايزمان الخاصة عن ازدرائه العنصري لـ”العرب” واحتقاره لليهود الأصليين من سكان فلسطين المعادين للصهيونية: كان هناك الكثير جداً من الفلسطينيين في فلسطين بحيث يعوق عددهم إنشاء دولة يهودية، ولم يكن هناك عدد كافٍ من اليهود من السكان الأصليين الملتزمين بالصهيونية الاستعمارية. وأعرب وايزمان عن قلقه من أن “المشكلة العربية” قد تخرج المشروع الإقليمي والسياسي الصهيوني في فلسطين عن مساره. وكان يعتقد أنه في حين أن “الصداقة” والتفاهم بين العرب واليهود ممكنان، إلا أنهما مشروطان وثانويان بالنسبة للغزو الصهيوني لفلسطين، وأصر على الفصل الوطني الكامل بين “العرب” و”اليهود”. ومع الحماية الاستعمارية البريطانية، أنشأ الصهاينة منظمات يهودية منفصلة سياسية، وخاصة بالهجرة، وتعليمية، وعمالية، واقتصادية، وخاصة بالأرض، واجتماعية. ومع كل دليل ملموس على نجاحها، عملت الصهيونية الاستعمارية على إنهاء مستقبل اليهود العرب كجزء قابل للحياة من المجتمع السياسي العربي -بدءاً من فلسطين، ولكن ليس انتهاء بها. بدأ ملّول العمل في اللجنة الوطنية الصهيونية في وجود الانتداب البريطاني المؤيد للصهيونية في فلسطين، الذي استمر حتى العام 1948. وسعت القيادة الصهيونية في فلسطين إلى جمع المعلومات عن عرب فلسطين وبث الدعاية بينهم. ومثل عدد متزايد من اليهود العرب الآخرين، ألقى ملول بحظوظه بشكل لا رجعة فيه مع الصهيونية الاستعمارية. كأفراد، ربما كان هؤلاء يحتفظون بعلاقات حميمة اجتماعيًا مع العرب الآخرين من ديانات مختلفة، بل وحتى أحبوا اللغة العربية. ومع ذلك، تبنوا أيضًا الفرضية التاريخية المركزية للصهيونية الاستعمارية الجماعية: أن فلسطين هي الأرض القومية للشعب اليهودي. وقد وضعوا أنفسهم في التسلسل الهرمي السياسي والعرقي الذي وضع باستمرار يهود أوروبا الأشكناز في القمة، يليهم اليهود الشرقيون وغيرهم من اليهود في الشرق الأوسط، وأخيراً السكان الأصليون غير اليهود الذين لم يكن لهم أي مكان حقيقي في المشروع الصهيوني. خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، قصفت الميليشيات الصهيونية شبه العسكرية الأسواق والمباني العامة ودور السينما في حملة إرهاب منظم. وكان أكثر أعمالها الشائنة شهرة هو المذبحة التي ارتكبتها في حق المدنيين الفلسطينيين في دير ياسين في نيسان (إبريل) 1948. وقد أنشأت منظمة الإرغون وحدة مكونة من اليهود العرب واليهود الشرقيين الذين يتحدثون العربية للتسلل وإرهاب عرب فلسطين. واستخدمت الصهيونية الاستعمارية اليهود العرب للدراسة والمراقبة والإعلام والإدارة، وفي النهاية المساعدة على السيطرة على مواطنيهم السابقين. ومع ذلك، فإن الصهيونية الاستعمارية، للمفارقة، كانت مبنية على الرفض التام للكينونة العربية اليهودية. كانت مأساة اليهود العرب أن عروبتهم استُخدمت كأداة من قبل الصهيونية الاستعمارية، التي أنكرت شرعية هويتهم العربية اليهودية. وقد تم جعلهم -وجعلوا هم من أنفسهم- مستعمِرين استيطانيين في بحر من الظروف المتناقضة. بعد النكبة (كارثة تهجير الفلسطينيين) في العام 1948، سعت الدولة التي يهيمن عليها الأشكناز إلى نزع العروبة من العرب المهاجرين اليهود الذين وصلوا إلى دولة إسرائيل المنشأة حديثًا. وقد ارتعد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، من فكرة أن اليهود العرب سيحولون الدولة الجديدة إلى دولة “شامية” أخرى يسكنها ما اعتبرهم هو والعديد من المستعمرين الأوروبيين يهوداً شرقيين “بدائيين” أقل شأناً. وقال بن غوريون عن هؤلاء اليهود الذين اعتبرهم قريبين جدًا من الثقافة العربية: “نحن غرباء عليهم وهم غرباء علينا، إنهم يهود فقط بمعنى أنهم ليسوا من غير اليهود”. على الرغم من أن الصهيونية الاستعمارية طالبت بالفصل القومي الجديد تاريخيًا بين “العربي” و”اليهودي”، فقد أعلن قادتها على رؤوس الأشهاد أن هناك كل إمكانية للتقارب مع العرب خارج فلسطين -طالما وافقوا على التخلي عن فلسطين والفلسطينيين. وعلى سبيل المثال، كان وايزمان يأمل في التوصل إلى اتفاق مع “عرب الحجاز، الذين هم أكثر إثارة للاهتمام من ’البيستريوك’ المحليين” (من كلمة байструк، الروسية التي تعني “لقيط”). ومع زيادة وضوح حجم الاستعمار الصهيوني في فلسطين وطموحه السياسي، أصبحت قضية فلسطين أيضًا عنصرًا أساسيًا من عناصر الهوية العربية الحديثة. في العام 1919، كان بعض قادة العرب على استعداد لتوقيع معاهدة صداقة بين “العرب” و”اليهود” في لندن، والتي كان قد صاغها وايزمان على ما يبدو. وربما تأثر هؤلاء بتأكيدات وايزمان بأنه لن يلحق أي ضرر بالسكان الفلسطينيين المحليين. والأرجح أنهم أرادوا من الصهاينة دعم طموحاتهم السياسية في المنطقة. وبعد عام واحد، تحطم وهم هذا النوع من الصداقة المنفصلة عن الواقع في فلسطين وعن المشاعر الغامرة التي عبّر عنها العرب بشكل أوسع في معارضة الصهيونية الاستعمارية، بسبب الاشتباكات العربية اليهودية في القدس التي عجلها الاستعمار الصهيوني. وبحلول الوقت الذي اندلعت فيه الثورة الكبرى المناهضة للاستعمار ضد الانتداب البريطاني في فلسطين في العام 1936، كانت المحاولات العربية لتمييز اليهود عن الصهاينة تغرق بشكل متزايد في طوفان الحقائق على الأرض. وجعل الإصرار الصهيوني الذي لا هوادة فيه على أن الشعب اليهودي المتنوع يشكل مجتمعًا سياسيًا عرقيًا ودينيًا فريدًا من مثل هذا التمييز متهافتاً تمامًا ويصعب للغاية الحفاظ عليه. وأدت ردود الفعل العربية العنيفة المعادية لليهود على الصهيونية الاستعمارية والإمبريالية الغربية إلى تفاقم الهوة الجديدة والمتنامية بين العرب واليهود. وفي تلك المرحلة، تنكر التاريخ في صورة القدر. كان جدي يسافر إلى الولايات المتحدة في العام 1948 عندما حدثت النكبة. وليس من الواضح ما إذا كان الأستاذ أنيس قد تذكر قصيدته التي كتبها عن الصهيونية قبل عقود؛ المذكرات التي يروي فيها رحلته لم تذكرها. وبدلاً من ذلك، أشار إلى حيرته من حجم الدعاية الصهيونية في الولايات المتحدة بشأن قضية فلسطين. وأثناء عودته إلى لبنان، شعر بالفزع عندما سمع عن اغتيال “الصهاينة” للوسيط السويدي للأمم المتحدة الكونت فولك برنادوت. وبالنسبة لجميع العرب في تلك اللحظة تقريبًا، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، سنة أو شيعة، فقراء أو أغنياء -سواء كانوا يعيشون في المغرب أو سورية؛ في العراق أو اليمن أو المملكة العربية السعودية- أصبحت الصهيونية لعنة بقدر ما أصبحت “القضية الفلسطينية” فكرة موحِّدة. لاحظ جدي، على سبيل المثال، في كتابه بعنوان “الاتجاهات الأدبية الكلاسيكية في العالم العربي الحديث” (الذي نُشر لأول مرة في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي)، أن “فلسطين تشكل قضية وطنية عربية عامة، وبالتالي فإن الأدب العربي في كل جزء من العالم العربي يعبر عن تعاطفه العميق مع وهو منشغل بمصيرها”. وبالنسبة للأقلية من العرب اليهود الذين ظلوا في العالم العربي بعد العام 1948، كان تعريف “فلسطين” معقدًا للغاية بسبب الجهود الصهيونية لإقناعهم وإغرائهم بـ”العودة” إلى فلسطين، من خلال الدعاية، والعنف المعادي لليهود الذي جعل منهم أكباش فداء في أماكن مثل العراق. لكنه ظل واضحًا -كخيط هش إلى ماضٍ ومستقبل محتمل من التضامن الذي يتسامى على القومية العرقية-الدينية. لم ينبع هذا الوعي العربي بالمصيبة التي تمثلها الصهيونية من كراهية دينية متأصلة من جانب العرب ضد اليهود، بل من شعور مشترك عميق بظلم لا يطاق ومستمر يتطلب إعادة الحق إلى أصحابه. بعد العام 1948، لم يكن بوسع القادة العرب التفكير في تحالف مفتوح مع الصهيونية كما فعل آخرون قبل 30 عامًا. وقد اعترف بعض المفكرين العرب، مثل قسطنطين زريق، بصراحة بحداثة المشروع الصهيوني في فلسطين، لكنهم رأوا فيه نظامًا شريرًا يجب دراسته وهزيمته. هدد نجاح الصهيونية أسس الوحدة والهوية العربية العلمانية لأنها فضلت القومية العرقية والدينية في منطقة غنية بالتعددية الدينية. لكن هذا لم يوقف التواطؤ السري بين بعض العرب والصهاينة، ولا في نهاية المطاف، تحت ضغط أميركي هائل وبعد حروب أخرى عدة كسرت ظهر الجيوش العربية، معاهدات “السلام” برعاية الولايات المتحدة مع القادة الإسرائيليين العنصريين صراحة. وحدثت وفاة جدي أنيس في العام 1977 في العام نفسه الذي قام فيه الرئيس المصري أنور السادات برحله المثيرة للجدل إلى القدس، حيث التقى برئيس الوزراء الإسرائيلي (وعضو عصابة الإرغون السابق غير النادم) مناحيم بيغن الذي رفض حق تقرير المصير للفلسطينيين تمامًا. وعندما اغتيل السادات بعد بضع سنوات في القاهرة، اندلع إطلاق نار احتفالي في بيروت، حيث عاش جدي ومات. تعايش العرب لفترة طويلة جداً مع أبناء وطنهم من الديانة اليهودية. لكن هذا كان يختلف اختلافًا جوهريًا عن الرضوخ لدولة عرقية-دينية، ناهيك عن فرضها وإجبارهم على قبولها، والمبنية بالعنف على ما كان دائمًا، وما يزال، أرضًا متعددة الأديان. ومثل كل العرب تقريبًا، أدرك جدي أنيس فداحة الظلم المرتكب في فلسطين في العام 1948، لكنه تساءل أيضًا عما إذا كان العرب في ذلك الوقت مستعدين بشكل كافٍ، أو في وضع يمكنهم من رفع هذا الظلم بنجاح. وكتب يقول: لقد تم تمزيق فلسطين وانتزاعها من أيديهم. وهم الآن يكافحون لاستعادة أجزاء منها. هل يجب أن نصدر دعوة إلى حمل السلاح، أم نقول إن الزمن سيحكم في النهاية لصالح العدالة، لأن الزمن هو أعدل القضاة؟ *أسامة المقدسي: أستاذ التاريخ والحائز الأول على كرسي المؤسسة التعليمية العربية الأميركية للدراسات العربية في جامعة رايس في هيوستن. أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان “عصر التعايش: الإطار المسكوني وصنع العالم العربي الحديث” Age of Coexistence: The Ecumenical Frame and the Making of the Modern Arab World (2019). *نشر هذا المقال تحت عنوان: East of Zionism: What happened to the ideal of multireligious Arab modernity?

لقراءة المزيد من الترجمات 

اضافة اعلان