"شرك" حماس وجحيم غزة

 

أصاب عبد الباري عطوان، رئيس تحرير صحيفة القدس العربي، كبد الواقع في مقاله "حكومة حماس في غزة"، فالمسألة ليست بحاجة إلى كثير ذكاء لإدراك أنّ حركة حماس قد استدرجت إلى الوضع الحالي، وانتصارها "العسكري" على فتح في قطاع غزة، هو عين خسارتها السياسية الكبرى، ومحصلة حساباتها الخاطئة.

اضافة اعلان

صحيح أن حماس تسيطر اليوم على قطاع غزة، لكن في ظل ظروف اقتصادية قاهرة وخدمات رئيسة لا غنى عنها مرتبطة بقرار خارجي ومساعدات اقتصادية معلقة وحصار قاسِ وبيئة إقليمية معادية وشعب ملّ من الحالة المتردية، ومجتمع عاد إلى منطق العشائرية والفوضى بعد سنوات من النضال، وشباب وفئات واسعة تبحث عن أي مخرج، حتى لو كان بالهروب إلى مصر، كما فعل أفراد الأمن الفلسطيني!

أي ظروف يمكن أن تكون أسوأ من هذه! وأكثر مدعاة للفشل والرسوب في الامتحان ليس أمام الخارج بل أمام الشعب الذي أوصل حماس إلى السلطة طمعاً في التخلص من وحش الفساد الفتحاوي وإذا به يصل إلى مرحلة أسوأ وأخطر، لا تقارن بما سبق!

لا يخفى أنّ عبد الباري عطوان، في الفترات الأخيرة، كان "متعاطفاً" مع حماس، لكنه لم يملك أن يداري ويخفي خيبة أمله مما وصلت إليه هذه الحركة ومن المستقبل المظلم الذي ينتظر الشعب الفلسطيني بعد التطورات المتسارعة الأخيرة. وإذا ما استمر سيناريو الصراع والاستفراد بغزة، وأخشى أنه السيناريو الوشيك، لن تبقى "القضية الفلسطينية" سوى بضعة أشهر، حتى يبدأ المجتمع الفلسطيني نفسه يستنجد بالتدخلات العربية والدولية، وقد أشار عطوان إلى أنّ المسار الطبيعي لهذا السيناريو هو البحث مرة أخرى عن صيغة للكونفدرالية تعيد الضفة الغربية إلى الأردن، وأن تترك غزة إلى مصيرها والفوضى، ولن تقبل بها حتى مصر، ولا "أبناء غزة أنفسهم". فما يحدث اليوم يباعد بين الفلسطينيين وبين قيام دولتهم مسافات طويلة ويسرع في الوصول إلى نهاية الطريق.

لا داعي للتذكير أنّه لأول مرة، منذ عقود من النضال، ترتفع نسبة الراغبين من الشباب الفلسطيني بالخروج من بلادهم، فهناك زيادة هائلة على طلبات الهجرة للسفارات الغربية، وهي حالة إنسانية طبيعية في ظل ليس فقط ظروف اقتصادية قسرية وإنما إغلاق في الأفق السياسي وانتشار حالة من الإحباط في المزاج العام الفلسطيني بأسره!

سيقول مؤيدو حماس أنّها ضحية التواطؤ الداخلي، الإقليمي والدولي. وهذا صحيح، لكنها انجرت إلى ذلك "الشرك" على الرغم من التحذيرات والتنبيهات العديدة التي كانت تصدر من محايدين ومن أصدقاء للحركة. فيما استسلمت حماس للتيار المتشدد المنغلق قصير النظر الذي لم يفكر إلاّ بمنطق الصراع السياسي- الحزبي وبالاستسلام لغواية "القدرة الأمنية" على حسم المعركة في غزة، وهو التيار، نفسه، الذي رفض بشدة اتفاق مكة واعتبره تخلياً عن ميثاق الحركة ومنطلقاتها.

في المقابل كان هنالك تيار براغماتي في الحركة يعي تماماً خطورة الانزلاق إلى تفكير التيار المتشدد، ويدرك أنّه حتى لو تمكنت حماس من السيطرة على قطاع غزة فإنها ستعزز أزمتها وستضع بنفسها أسس خسارتها السياسية الاستراتيجية. وكان نصيب هذا التيار التشكيك والتجاهل! ويكفي في هذا السياق العودة إلى مقترحات د. أحمد يوسف، المستشار السياسي لرئيس الوزراء اسماعيل هنية، الذي حاول أكثر من مرة دفع حماس من "منتصف الطريق" الذي علقت به، وحاول أن يخاطب الأوروبيين والعالم الخارجي، لكن تيار "الشد العكسي" والخط الأيديولوجي فرض رؤيته، وأعاد الحركة إلى الوراء لكن دون وجود أية رؤية استراتيجية- واقعية مستقبلية.

سيقول الإسلاميون، وقد قالوا، أين هي البدائل! فمهما فعلنا لن يرضوا عنا، وكأنّي برائحة العدمية تسود في هذا المنطق! فإذا كان الخيار الوحيد لحماس هو ما وصلت إليه، فكان الأفضل لها أن تستقيل من الراهن السياسي وأن تعود إلى المجال الاجتماعي والثقافي، أمّا أن تورط المجتمع الفلسطيني بسنوات عجاف ورهانات خاسرة مسبقاً، فأعتقد أن النتيجة محسومة وواضحة.

وقعت حماس في الفخ وجعلت من غزة جحيماً! والعقلاء في الحركة يتحركون الآن في الوقت "ما بعد الضائع"، فهل ينقذونها ويجنبون الشعب الفلسطيني أياماً أشد سواداً وأحلك مما شاهده سابقاً على قساوته!

[email protected]