شعبوية بول فيندلي

رشا سلامة*

حالة متفرّدة تلك التي تمكّن عضو الكونغرس الأميركي الراحل، بول فيندلي، من خلقها؛ إذ في الوقت الذي شغل فيه موقعاً لا يتنازع اثنان على أهميته، فإنّه قد فهم نفسية المتلقي العربي إلى حدّ يبعث على الدهشة، فاختار لغة وطروحات جعلت من شعبيته أمراً مؤكداً.
الرجل، المولود العام 1921، في إلينوي، كان يستخدم أدوات الباحث والأكاديمي، لا للخروج بنتائج خلاقة في عالم البحث والفكر، بل ليبعث لدى المتلقي العربي طمأنينة حول أنّ كلّ ما يفكر فيه من طروحات ذات طابع وجداني انفعالي وشعبوي مثبت بالعلم والبحث، وعلى مبدأ "شهد شاهد من أهلها"، وأيّ خلطة نجاح مضمونة أكثر من هذه لتكون نجماً لا يشقّ له غبار في العالم العربي؟
لعلّ من أشهر تلك العبارات والمتلازمات اللفظية التي تفنّن فيندلي في تطويعها وقولبتها، لا لتكون لقمة سائغة فحسب، بل ليسيل لها لعاب العربي المتعطش لمن يثبت وجهات نظره بتفوقه دينياً وأخلاقياً: "وجود الإسلام في أميركا اليوم قوي، بل أقوى من الوجود اليهودي"، وقوله "الحركة الإسلامية ستنتصر في نهاية المطاف"، و"القرآن رائع وممتاز ونموذج للسلوك الإنساني في كلّ لحظة"، و"المسلمون عانوا كثيراً بسبب الصور الزائفة التي انتشرت عن الإسلام في الولايات المتحدة والغرب، ومعظم الأميركيين يربطون خطأ الإسلام بالإرهاب، وذلك نتاج الجهل؛ فالأميركيون لم يروا نسخة واحدة من القرآن ولم يقرؤوا أي آية، وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتسيء أكثر للإسلام، حتى أصبحت الولايات المتحدة أرض الخوف بالنسبة للمسلمين".
ولعلّ الدلالة الأبرز على نجاعة ما اختاره فيندلي لتثبيت موطئ قدم راسخ له في العالم العربي هو في استذكار كم من مفكر عربي ناقش الأمور ذاتها التي ناقشها فيندلي، عن صورة العرب والمسلمين في الغرب، وإشكالات القضية الفلسطينية في الأوساط السياسية الغربية التي يمسك اللوبي الصهيوني بعنقها، لكن أيّاً منهم تقريباً لم يُقابل بالدهشة ذاتها التي قوبل بها بول فيندلي.
حسبنا هنا أن نستذكر حكاية توسّطه في إطلاق سراح إيد فرانكلين، الذي سُجِنَ في عدن بتهمة التجسّس، بعد أن رآه رجال الأمن في المطار يلتقط الصور للمنشآت، فظنّوه جاسوساً، لكنّه (فيندلي) عادَ به محرّراً وعاد للغرب بحكاية (قدّمها في الحقيقة للعرب) حول عظمة الدين الإسلامي وأخلاق المسلمين! ما يكاد المتأمل يجزم به هو أنّ المتلقي العربي بالمجمل لم يقف لدى سؤال: هل كانت رواية الموقوف البريطاني منطقية؟ ما مدى صحتها؟ هل دفاع فيندلي عنه كافٍ لتصديق أنّ تصوير منشآت في مطار دولة تعاني من القلاقل السياسية محض تصرف عفوي؟ كان المتلقي العربي مأخوذاً برواية فيندلي إلى حدّ لم يُجرِ فيه تدقيقاً على شيء، لا منطقية الحكاية ولا تفاصيلها ولا حقيقة ما حدث في عدن وكيف تنازلت السلطات هناك، على حين غرّة، عن تزمّتها في قضية الموقوف لديها بتهمة التجسّس. حسبُنا هنا أن ننظر لحجم الزخم الشعبوي في عبارة فيندلي هذه "فتحت عيني على ثقافة مستندة إلى الشرف والكرامة وقيمة كلّ إنسان، علاوة على التسامح وطلب العلم، وهي معايير عرفت فيما بعد أنها متأصلة عميقاً في الدين الإسلامي، إنّها أهداف كانت ستلقى استحسان أجدادي المسيحيّين"، وعبارة أخرى يقول فيها: "اكتشافي للإسلام عبر إلهام مفاجئ، مثل اكتشاف صندوق كنوز في الزاوية المظلمة في العليّة، بل كان فهمي له كالدرر تتبدّى الواحدة بعد الأخرى مع مرور الزمن".
ظاهرة بول فيندلي قد لا تحمل بُعداً فكرياً وأكاديمياً وبحثياً متفرداً، بقدر ما تحمل براعة يُشهد لها في الإمساك بدفّة الخطاب والإعلام، وتحديداً ذاك الذي يتعطّش العربي والمسلم لسماعه.

اضافة اعلان

*صحافية وأستاذة جامعية في الإعلام