شعوب قادرة.. حاقدة

إن لم يكن العراقيون، السُنّة تحديداً، قد خبروا هم ذاتهم سابقاً فظائع تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، فإنهم قطعا شاهدوا الكثير من هذه الفظائع ترتكب على مسافة قريبة جداً منهم في سورية؛ والتي قد يكون أخفها، ضمن مظاهر أخرى كثيرة، الإعدام والصلب.اضافة اعلان
مع ذلك، لم يتردد هؤلاء العراقيون، في غالبيتهم العظمى على الأقل، في التعبير عن بهجتهم منذ بدء التنظيم بالسيطرة على مناطقهم. وإذا كان من الممكن القول حتماً، وعن حق، بأن ما يجري في العراق هو حراك (أو ثورة) سني شامل، بحيث لا يشكل "داعش" إلا جزءاً منه، يصل وفق أقصى التقديرات إلى 20 % فقط من مجموع الحراك، فإن السؤال المحير يظل قائماً بشأن تزايد أعداد العرب المنتسبين إلى التنظيم، رغم رؤيته العدمية، وبحيث يكون الانخراط فيه مرتبطاً باحتمالية الموت أكثر من تحقيق أي هدف آخر.
طبعاً، قد تظهر هنا تفسيرات لا تقل عدمية عن رؤية "داعش"؛ باختزال المسألة بالأيديولوجيا الدينية. لكن مثل هذا التفسير، ابتداء، لا يحل أبداً معضلة سبب سيطرة هذه الأيديولوجيا، والعجز عن مواجهتها طوال سنوات مديدة، ازدادت فيها جرائم جماعات التطرف والإرهاب وضوحاً، لكن في المقابل، وفي تناقض عجيب، زاد عدد أعضاء هذه الجماعات وقوتها وليس العكس! أما الأهم، فهو أن هذه الثقافة العدمية لا تقتصر على أتباع "داعش" وسواه من تنظيمات إسلامية متطرفة، بل هي أيضاً ثقافة علمانية قومية يسارية عربية بالدرجة ذاتها، وتسبق نشأة "داعش" بعقود. أكبر مؤشر على ذلك هو هذه القداسة التي يتم إسباغها على بعض الزعماء العرب الذي لم يورثوا الأمة مجتمعة، وليس شعوبهم فقط، إلا الهزائم والتخلف؛ من جمال عبدالناصر إلى صدام حسين.
هكذا، وبالنظر إلى الصورة الكلية؛ إسلاميين وعلمانيين عرب، يكون ممكناً القول إن التفسير الأدق هو أن الشعوب العربية قد تخلت منذ أمد طويل عن عقيدة ورؤية البناء، لصالح عقيدة ورؤية الحقد والانتقام من خصومها فقط، بإيقاع أشد الأذى بهم، وأياً كان الثمن الذي تدفعه هذه الشعوب من حاضرها ومستقبلها. والأخطر هنا أن هذه العقيدة والرؤية ليستا مرتبطتين بالعامة والدهماء، بل هي أساساً صنيعة ما يسمى "النخبة" من كل لون واتجاه. يكفي دليلاً على ذلك ليس فقط احتفاء هذه "النخبة" بكل مدع لعداء إسرائيل والغرب غطاء للاستبداد والفساد اللذين يناقضان التحرير حتماً، بل والاحتفاء الأشد اليوم بصعود روسيا في مواجهة الغرب أو العكس؛ كما صعود تركيا في مواجهة إيران أو العكس؛ بغض النظر عن انعكاسات ذلك على العالم العربي (أو الأمة العربية)؛ لكأن أقصى إمكانات الأمة، بنظر هؤلاء، هي الشماتة بالآخرين أو التحسر عليهم، وفقاً لصف التأييد الذي يقفون فيه!
لكن لعل ما يميز الموجة الجديدة من التطرف العربي، والتي ترتبط بالرغبة في الموت، هو حجم ما يمكن تقديمه من الشباب العربي. وهذا ما يجب التقاطه باعتباره مؤشر قدرة، والعمل على تحويلها من انتحار وخسائر، إلى طاقة بناء مستقبل يستحق الحياة لأجله.