شكّوا.. شكّوا!

خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده وزيرا الداخلية والإعلام، مع قيادات أمنية، قدّم المسؤولون مشكورين حيثيات وتفاصيل مهمة ومطلوبة بشأن الحادثتين اللتين شغلتا الشارع وهيمنتا على اهتمام الرأي العام الأردني خلال الأيام الماضية؛ سقوط الشقيقتين ثريا وجمانة السلطي من بناية بعمان، وإقدام النقيب الأردني أنور السعد، على قتل عدد من المتواجدين في مركز الملك عبدالله للتدريب، وجرح آخرين.اضافة اعلان
سأقفز عن موضوع الشقيقتين السلطي لأسباب متعددة، منها قرار المدّعي العام، أمس، بحظر النشر لدواعي التحقيق. لكن سأقف على موضوع النقيب أنور السعد، وهجوم وزير الإعلام، د. محمد المومني، على بعض وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي روّجت لـ"نظرية المؤامرة"، مؤكداً أنّ الدولة تضع التفاصيل الضرورية بين أيدي المواطنين فور تمكّنها من ذلك.
ربما الشطر الدقيق في كلام د. المومني هو أنّ هناك شريحة اجتماعية واسعة من الأردنيين ما تزال مغرمة ومسكونة بنظرية المؤامرة في تفسير الأحداث. لكن ليس ذلك هو السبب الصحيح والرئيس لموقف المواطنين تجاه قصة أنور؛ بل العامل الأساسي يعود إلى غموض واقتضاب الرواية الرسمية في البداية، والفراغات التي تركتها، مخلّفة وراءها العديد من علامات الاستفهام والتساؤلات عن الموضوع، ما دفع إلى طرح تأويلات وتفسيرات، بدأت من أقارب أنور الذين شكّكوا في المعلومات التي تصلهم، ثم انتقلت العدوى إلى عشيرته، التي وصلت إلى "حالة إنكار" للحادثة نفسها، وأخيراً حالة البلبلة التي وصلت إلى الرأي العام.
لو قارنّا حادثة الموقر مع التفجيرات الفرنسية الإرهابية الأخيرة، مع الفرق الكبير بين الاثنتين، ولكن لغايات مقاربة الفرق بين تعامل الحكومتين؛ فإن المسؤولين الفرنسيين خرجوا بعد ساعات ليتحدثوا إلى الرأي العام، فيما وضع وزير الداخلية الفرنسي المعلومات والحقائق المتاحة لديه، والتي لا تضرّ بالتحقيق، أمام الرأي العام. وبدأ القضاة والمدّعون العامون يقومون بدورهم ضمن خطوط واضحة من الالتزام القانوني والشفافية والصراحة والمصداقية في التعامل مع الإعلام والرأي العام!
وعندما شعر المسؤولون لدينا بأنّ هناك تشكيكاً في الرواية الرسمية، فقد كان من المفترض أن يكون التعامل مع الإعلام والرأي العام وأهل النقيب السعد أكثر شفافية وبوقت أقصر، بما لا يضر بالتحقيق، ويردم الفجوة العميقة بين الدولة والرأي العام. وهي فجوة المصداقية والثقة من قبل الشارع، والاستهتار وعدم الاكتراث بالمزاج الشعبي، والاستهتار بحق الناس في معرفة الحقائق والوقائع من جهة المسؤولين!
قد لا ترضي المعلومات والحقائق التي تعرضها الدولة والتفاصيل المتاحة شريحة من المجتمع، وقد تبقى أزمة الثقة والمصداقية قائمة. وقد رأينا كيف أنّ التشكيك استمر بعد المؤتمر الصحفي الذي بدت فيه رواية الدولة قوية في جانب، وضعيفة وركيكة في جوانب أخرى. لكن ذلك لا يمنع من أن تبدأ الدولة مسارا جديدا مختلفا في بناء رسالتها الإعلامية والسياسية، يقوم على محاولة توفير المعلومات والوقائع والحقائق أمام الناس في أسرع وقت، وتمكين الإعلام المحترف من المعلومات الدقيقة، وعدم الاستهتار بالمزاج العام.
إلى اليوم، ما يزال المسؤولون لا يدركون، أولاً، أهمية الرواية الإعلامية وقيمة الوقت في نشرها. وثانياً، المستوى الثقافي والسياسي المرتفع للرأي العام الأردني، الذي يمتاز بالنزعة النقدية تجاه الأحداث، ما يجعل أي رواية حكومية أو رسمية غير متماسكة ومشكوك فيها، محلا للتندر والسخرية والنكت!
وربما أطرف ما في الأمر هو أن ترى مسؤولين أردنيين معجبين بالقنوات التلفزيونية الخاصة التي تروّج روايات سخيفة لدعم الحكومات، مثل قناة دنيا في سورية، أو المذيعين المصريين الذين يقومون بأدوار أقرب إلى التهريج. وفي أحيان تشعر أنّ هذا هو "النموذج" الذي يبحث عنه مسؤولون لدينا، لكن من الضروري أن يعرفوا بأنّه لا يمكن أن ينجح في الشارع الأردني!