شمعة راسم وصقور العرقان

وقفت على جبل قبالة المستوطنة المنتصبة وحشاً قميئاً، يرافقني صديقان من بلعين؛ أحدهما من جيل الثورة، والثاني من الشباب. نقف على أرض مُستعادة، بعد أن ثبّت الأهالي بنضالهم تغيير خط الجدار، فدحروه إلى الخلف. تذكّرت جزيرة النخلة في دبي؛ فإذا كانت "النخلة" قامت على طمر البحر برمل قاع البحر، فإنّ أرض بلعين خرجت من بطن الحوت. كان صديقي المقاتل المخضرم يشير إلى السفح قائلا: للأسف، كانت الصقور تستوطن العرقان هنا، وتتكاثر فيها، ولكن عمليّات الجرف التي صاحبت الجدار أبعدتها.اضافة اعلان
زرت بلعين وكتبت عنها قبل نحو أحد عشر شهراً. يومها، كان هناك تفاؤل بمبادرات لاستصلاح الأراضي التي استعيدت من الجدار، وهذا مهم للحفاظ عليها. اليوم، تشاهد لوحةً تتشكل، والطموح يتحقق. يُعطي تناثر الحجارة البيضاء المغبرة على التراب الأحمر إحساس الذهب الحي. تنتصب جدران حجرية (سناسل) صغيرة هنا وهناك، أراض مسيّجة بأسلاك أبوابها مشرعة للزيارة، أعلام فلسطين في أكثر من "مزرعة". وجدنا أشرف أبو رحمة (الضبع)؛ الشاب الذي تعلق بكف الجرّافة ست ساعات معيقا عمل الجدار، وشقيق الشهيد باسم (2009) والشهيدة جواهر (2011)، قرب حديقة ألعاب للأطفال أقيمت هناك، والأطفال يملؤون المكان. "الضبع" يراقب إذن، ويحرس الأطفال إذ يلعبون! هذه "حرفته" الآن. تخيلت باسم وجواهر يعلنان: بحجر بنينا سقف السماء ليلعب طفل. قلت لأشرف: إذن، أنت "حارس الأرض"؟ قلتها بنبرةٍ تجعلني أقول "حارس وطن". ضحك أشرف.
في زيارتي بيت جالا وبيت لحم الأسبوع الذي سبق بلعين، كان المشمش والتوت سيّديّ الموقف. هنا الأشجار زيتون، والأرض مزروعة بالخضار بأنواعها. هناك وهنا لا يوجد منتج واحد في الأرض الواحدة، كما لو كان أهالي الأرض لا يزرعون للتجارة والربح، بل كمن ينسّقون باقات. بعضهم وضع الفزّاعات لتهرب الطيور. في مزرعةٍ قيل لي إنّها كانت الأسبق، فيها بعض الأشجار وبعض الخيار وبعض القرع وبعض البطيخ ومنتجات أخرى. سأل صديقي عن الثقوب في ثمرة ما، فقيل: "الطيور". قلتُ لما لا تضع فزّاعة؟ أجاب: "مش محرزة". شعرته يمنح الطيور نصيباً!
المشهد ليس مثاليّاً؛ هناك عمليات تخريب يقوم بها البعض لخزانات المياه، وقص للشبك، وتنافس على المياه. التخريب يثير الشبهات؛ لماذا يثقب أحدهم يأتي من قرية أخرى خزاناً بفأس؟ هل هو مجرد عبث؟ وأمر آخر هو أن جزءا كبيرا من تمويل المشاريع إذا لم يكن شخصيا، يأتي من منظمات دولية. مرارة تمر في الحلق وتتساءل: أين الدعم العربي؟ وهناك من لا يملك تكاليف الاستصلاح.
يخبرك صاحب المزرعة انّه استخدم "العرقان". تنظر، فتجد صخورا كبيرة تقوم مقام السور. أعترف لنفسي أني كنتُ أجهل أنّ "العرقان" تعني الصخور (مفردها عراق). كنتُ أعتقد أنّ الحديث السالف عن الصقور يعني شيئا خاصا بالصقور. بحت للمضيفين باكتشافي فابتسموا.
كان العشاء في مزرعة في "كفر نعمة" القريبة، والمضيفون والضيوف من قدامى المقاتلين والمناضلين، ممن تنقلوا في ساحات الثورة، وأبناؤهم، وأنا. قصص تشكل كتاباً. ولكن أجمل شمعة أضاءت جلستنا كانت شمعة راسم. حدثّونا كيف تحول اسم قلعة شقيف إلى قلعة راسم (يعقوب سمّور)؛ ابن قرية قبلان. كان يحمل درجة جامعية في الجغرافيا، وسجّل ليدرس التاريخ بعد ذلك، ثم أضاف له علم السياسة. وكان قائدا في القلعة، فكيف سيدرس ليلا والمواجهة تتطلب عدم الإضاءة؟ تخندق في زاوية، وابتدع طريقة يضع فيها شمعة أو مصدر إضاءة في عمق "تنكة" زيت، ويثني جدرانها على نحو تنعكس معه الإضاءة على الورق بدون أن يشاهَد الضوء من بعيد.
استشهد يعقوب العام 1982. واصل إطلاق النار ورجله مقطوعة تنزف؛ غطى انسحابا تكتيكيا لإخوته في القلعة حتى استشهد. كان نسرا بين صخور قلعة. قبل أسابيع، بث التلفزيون الإسرائيلي برنامجاً عن صمود "شقيف" الأسطوري، أكد فيه أنّ احتلال القلعة كان بعد أن أذاق حوالي 30 فدائيا (شهيدا) أهوالا لأكثر من ألف جندي.
كان أشرف صقرا يوم تعلق بالجرافة، وهو الآن صقرٌ يحمي الحديقة. والمزارعون استحالوا صقورا بين "العرقان"، يتذكرون حرّاس قلعة شقيف وراسم. وللعرس بداية تذكرناها، وتتمة تنتظر...

[email protected]