شيء اسمه الثقة!

انضم الناشط في حي الطفايلة براء السعود، إلى رفاقه المعتقلين من الحي ومحافظة الطفيلة، وآخرين. وتمّ تحويل أغلب هؤلاء إلى محكمة أمن الدولة العسكرية، بتهم متعددة، مثل تقويض نظام الحكم، وتغيير الدستور. وهي تهم لا تختلف تماماً عما كانت تمارسه الحكومات في السنوات السابقة.اضافة اعلان
كثيرون يختلفون مع سقف الشعارات الذي تكرّس لدى "النشطاء الطفايلة"، ولا يوافقون على خروج بعض مجموعات المعارضة عما توافقت عليه أغلبية الأردنيين من جعل سقف المطالب "إصلاح النظام"، ولا على شخصنة قضايا الإصلاح ومكافحة الفساد. في المقابل، فإنّ مواجهة هذه السقوف والخطابات الجديدة لا تتم عبر الأدوات التقليدية البائدة، التي تصب الزيت على النار، بدلاً من أن تطفئ الحرائق!
الاعتقالات التي تجري، أولا، تضرب سمعة الدولة في الصميم، وتؤكّد أنّ وعود الإصلاح وإطلاق الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان وحمايتها والالتزام بخط القانون، كل ذلك يمكن أن "يسقط" في لحظة واحدة من حسابات المؤسسة الرسمية وخطابها وسلوكها!
لعلّ من أبرز ما جاءت به التعديلات الدستورية الأخيرة، هو تقليص دور محكمة أمن الدولة إلى ثلاثة مجالات (الإرهاب، وتزييف العملة، والمخدّرات)، وإخراج القضايا السياسية والمتعلقة بأنشطة المعارضة والحريات العامة من دائرة صلاحياتها. فيما يأتي تحويل هؤلاء النشطاء إلى المحكمة، مع وجود تأكيدات من محاميهم بأنّهم تعرّضوا لانتهاكات حقوق الإنسان في المراكز الأمنية، لينسف الحديث الرسمي بأسره عن الإصلاح واحترام الحريات العامة وضمانة حقوق الإنسان، والالتزام بالتعديلات الدستورية، وليأكل ما قامت به الدولة نفسها من خطوات في العام الماضي لاحتواء الضغوط الشعبية والتعامل معها بصورة أكثر ذكاءً من أنظمة عربية أخرى!
الاعتقالات، ثانياً، لن تخفف من السقوف، ولن تردع الآخرين من المشاركة في الحراك، بل ستعزّز حالة الاحتقان في أتون أزمة اقتصادية وضغوط معيشية خانقة، بخاصة في أوساط المحافظات، وربما تزيد من نسبة المتعاطفين مع المعتقلين من أبناء تلك المحافظات؛ وهو ما لاحظناه بوضوح من تزايد أعداد المشاركين في مسيرات المطالبة بالإفراج عن المعتقلين وسقف هتافاتهم، بعد الاعتقالات الأخيرة.
يبدو أنّ المسؤولين لدينا ليسوا مقتنعين بالحكمة التي تقول "المجرّب لا يجرّب" (أو أنّهم لا يملكون القدرة على تطوير رؤيتهم)؛ إذ جرّبوا اعتقال هؤلاء النشطاء سابقاً، ومورست بحق بعضهم انتهاكات لحقوق الإنسان، بشهادة المركز الوطني لحقوق الإنسان، ومع ذلك خرجوا وأصرّوا على مواقفهم وهتافاتهم!
ذلك من زاوية سياسية وواقعية، فضلاً عن أنّها دستورياً وقانونياً غير مقبولة؛ إذ كان يمكن أن تتم محاسبة من يتجاوزون بالقانون، وعبر الوسائل المؤسسية المحترمة، ومن خلال المحاكم المدنية، فأسلوب الترويع والترهيب لم يعد يجدي مع جيل جديد كسر حاجز الرعب والخوف. كان الأجدى النظر في ضعف قنوات التواصل السياسي، وغياب دور الحكومة المطلوب في تجسير العلاقة مع الحراكات والاشتباك مع الشارع ومناقشة خطاب هؤلاء الشباب، فيما تؤدي الاعتقالات إلى تسليط الضوء على هؤلاء الشباب إعلامياً وسياسياً، وتضخيم حجم الحراك أضعاف الواقع الحقيقي له! استمرار مسلسل الاعتقالات هو بمثابة وقود للحراك وللسقف المرتفع من الهتافات؛ فهو يعزّز من "الثقب الأسود" الذي يبتلع العلاقة بين الدولة والمواطنين، ويحيط المناخ السياسي بحالة من القلق والتوتر والترقب، فهو "ثقب الثقة" بالدولة وبسياساتها، ويقدّم دليلاً حسيّاً ملموساً على حجيّة الطرف الآخر بعدم مصداقية خطاب الإصلاح الرسمي في التعديلات الدستورية والحريات العامة وفي نوايا الإصلاح السياسي؛ فلا تريد المعارضة خدمة أكبر من ذلك!