صافوط (15)

في العطلة المدرسيّة الصيفية، العام 1984، بدأتُ اكتشف متعة الكتابة!
كنتُ في سن العاشرة، أهمُّ بالانتقال من مدرسة "الهدى والنور" الخاصة في صويلح، إلى الصف الخامس في مدرسة صافوط الابتدائية للبنين، الحكومية، عندما حصلتُ من أبي على دفتر كبير لا يشبه الدفاتر المدرسية، صار يحلو لي أن أنقل إليه فقرات وعبارات تعجبني، مما أقرأ في بعض القصص والكتب والصحف.اضافة اعلان
على أن قراءة القصص كانت عادة حاصلة عندي -بتشجيع من أمي- منذ سنواتي الأولى، بخاصة إصدارات "المكتبة الخضراء للأطفال"، وأظنها من أفضل القصص التي تنمّي الخيال، وتمنح الطفل فرصة الاطلاع على حكايات عالمية تنطوي على أفكار مدهشة وعِبر عظيمة. هكذا أخذ درجي، وخزانتي الصغيرة المجاورة للسرير، في بيتنا الريفي في صافوط، يزدحمان بالأوراق والقصص والمجلات. أما ما لم أقترفه أبداً، على غير ما فعل معظم أبناء جيلي، فهو قراءة الألغاز!
تطوّرت أمور "الكتابة" عندي بعد ذلك، من مجرد تبويب تلك الموضوعات، إلى محاولة محاكاتها، نثراً وشعراً، ولكن قبل اكتشافي أن للشعر أوزاناً معروفة! في الصف الخامس، كانت القصص الدينية وحكايات الصحابة شديدة الجاذبية بالنسبة لي، ربما بسبب الأسلوب المشوّق لأستاذ التربية الإسلامية، ما دفعني إلى محاولة روايتها بأبيات شعرية مفترضة، فضلاً عن محاولة كتابة قصص تجري على نهج ما أقرأه في الكتب! لكنني مع الوقت فضّلتُ الكتابة، وتنازلتُ عن الشعر!
المهم في الأمر أنني مزقت كل تلك الكتابات تالياً، عندما أعدتُ قراءتها خلال السنوات القليلة التالية ووجدتها ضعيفة! حتى ذلك "الكتاب" الذي "ألّفته" صيف العام 1986، عن بطولة كأس العالم التي أقيمت في المكسيك، على دفتر 64 ورقة، مزيّناً بصور من المباريات أخذتها من الصحف، مزّقته هو الآخر بعد سنتين، إذ اكتشفت أن أسلوب الكتابة فيه "مثل الأطفال"!
يا خسارة! كم كان رائعاً لو احتفظتُ بكتاباتي الأولى، ومحاولاتي الأولى للتعبير عن ذاتي وخواطري وأفكاري! أقدَمُ ما احتفظ به من كتابات اليوم، يعود إلى العام 1990، وهو "كتاب" يخص كأس العالم أيضاً، كتبته بخط يدي عن مونديال ايطاليا في نحو 200 صفحة، مزيناً بالصور هو الآخر، والحمد لله أنه نجا من تطوري الكتابي في السنوات التالية!
تشجيع أساتذة اللغة العربية سيكون مهماً جداً في "التطوّر الكتابي". إنه أكثر أهمية في العقد الثاني من العمر من تشجيع العائلة، لو وجد، وإن كان الاستعداد الشخصي للاهتمام بالكتابة وتذوقها والاستمتاع بها، هو الأساس طبعاً في احترافها. ذلك أن عبارات الإطراء التي يسمعها المرء من الأستاذ في حصة التعبير، وخلال كتابة موضوعات الإنشاء، لها أثر لا يوصف في اقتناعه بقدراته الكتابية، وإيمانه بأنه يجيد الكتابة حقاً، بخاصة إذا توفر الأستاذ على اعتراف من طلابه ومحيطه بأنه مدرّس "فهمان" ومتمكن، وهو ما عايشته مع معظم أساتذة اللغة العربية في سنوات المدرسة، تالياً.
هذا المقال هو الأخير الذي أكتبه في هذه السلسلة. لقد حاولت فيها -مستعملاً ذكريات طفولتي- أن ألقي الضوء على جوانب من حياة بسيطة عرفها أطفال الأردن في ثمانينيات القرن العشرين، فكان لكل منهم بيئة وأجواء خاصة بحسب المكان الذي سكنوه وعاشوا فيه وتجاوروا مع أهله ودرسوا في مدارسه، وأحوال عامة تشاركوا بها معاً، صنعت وجدانهم الجمعي وذكرياتهم المشتركة. تلك -في ظني- الوظيفة المفيدة لكتابة أي مذكرات. ولا ريب أن لكل منا قصته عن طفولته، وفي خاطر كل منا علامات باقية من مواقف مرّ بها. تلك أجزاء من قصتي، رويتها لكم، شاكراً كل من اهتم بمتابعتها، وأخص بالذكر القارئ العزيز هيثم الشيشاني.